الإمام الشافعي
لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسيبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام ، بدأنا في الدرس الماضي الحديثَ عن مناقب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى ، وقد استخلصنا من مناقب هذا الإمام الكبير أحد أكبر أعلام الفقه أن العلم والعمل صنوان لا يفترقان ، وننتقل اليوم إلى الإمام الشافعي ، ومحور الدرس مناقبه لا حياته، فحياته لها شأن آخر ، أما مناقبه ما قيل في خصاله ، وفي علمه ، وفي أدبه ، وفي ورعه لعل هذا الإمام الكبير يكون قدوةً لنا أيضاً .
قال أحدهم : كنا إذا أردنا أن نبكي قلنا بعضٌ لبعض : قوموا بنا إلى هذا الفتى المطلبي يقرأ القرآن ، المراد إذا أردنا أن نبكي بكاء الرحمة .
الإنسان أحياناً يشعر بحاجة لا إلى علم يملأ ذهنه ، أحياناً يشعر بحاجة إلى حال يغذي قلبه، العلم يملأ العقل ، والذكر يملأ القلب ، فالعقل غذاؤه العلم ، والقلب غذاؤه الذكر ، والإنسان إذا ظن أن الدين حقائق ، ووجهات نظر ، وأدلة ، وبراهين ، وغاب عنه أن الدين حب ، وأن الدين اتصال بالله ، وإقبال عليه ، وغابت عنه هذه الحقيقة فقد غاب عنه شطر الدين .
قالوا : إذا أردنا أن نبكي ، إذا أردنا أن نتصل بالله ، والبكاء من خلال الاتصال بالله يعدُّ علامةً أكيدةً على صدق الاتصال ، البكاء ليس إرادياً ، أن يبكي الإنسان خاشعاً ، أن يبكي إذا قرأ القرآن الكريم ، أن يبكي إذا ناجى ربه ، إذا توسل إليه ، أن يبكي إذا استغفره ، وإذا تفكر في خلقه ، فهذه علامة طيبة ، وأصحاب النبي كانوا بكَّائين ، والعين التي لا ينهمر منها دمع من خشية الله عين فيها مشكلة ، وقلب صاحبها قاسٍ كالحجارة ، أو أشدّ .
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : عَيْنَانِ لا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ "
[ الترمذي ]
فمن لوازم الإيمان الصادق البكاء ، ومن لوازم الاتصال بالله الحقيقي البكاء ، وقد قال بعض أصحاب النبي : بكينا حتى جفت مآقينا .
فكان هؤلاء يقولون : إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض : قوموا بنا إلى هذا الفتى المطَّلبي ، يقرأ علينا القرآن ، فإذا أتيناه ، واستفتح بالقرآن تساقط الناس بين يديه من شدة بكائهم ، لكن هناك نقطة دقيقة جداً ؛ الإنسان إذا قرأ القرآن وكان صافياً ، إذا قرأ القرآن وكان منيباً ، إذا قرأ القرآن وكان متصلاً إذا قرأ القرآن ، وكان مستقيماً عندئذٍ تكون لقراءته حلاوةٌ تحرك القلوب ، خشوعك حينما تسمع القرآن ، لا من نغم القارئ ، ولكن من خشوع قلب القارئ ، خشوع قلب القارئ ينتقل إلى قلب الذي يستمع ، فلذلك حينما يقرأ القرآن حرفةً وحينما يقرأ القرآن تجارةً ، بأجر حينئذٍ يفقد القرآنُ روحانيته.
فكان هؤلاء يقولون : إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض : قوموا بنا إلى هذا الفتى المطَّلبي ، يقرأ علينا القرآن ، فإذا أتيناه ، واستفتح بالقرآن تساقط الناس بين يديه ، ويكثر عجيجهم بالبكاء من حسن صوته ، فإذا رأى ذلك أمسك عن القراءة .
أنت أمَا سبق لك يا أخي أن سمعتَ القرآن من قارئ خاشع ، ودمعت عيناك ؟ أمَا قرأت القرآن ، وخشع قلبك ، فهذا من علائم الإيمان ،
إخواننا الكرام ، اسمحوا لي أن أقول هذه الكلمة ، وأرجو ألاّ تكون قاسية : إذا وقفت للصلاة ، ولم تشعر بشيء ، أو قرأت القرآن ، ولم تشعر بشيء ، أو جلست تذكر الله ، ولم تشعر بشيء فاعلم أن هناك حجاباً بينك وبين الله ، وأن هذا الحجاب بسبب مشكلة ، مخالفة ، معصية ، سوء ظن ، شرك ، إلى آخره ، فالإنسان يتعاهد قلبه ، لا يبقى هكذا معلومات حضور مجالس العلم ، فكرة ، وحجة ، هذا شيء جيد جداً ، وشطر الدين ذكرُ الله عز وجل ،
أكبر شيء يحرِّكك إلى الله هذا القلب الممتلئ حباً لله ، الممتلئ خشيةً له ، الممتلئ إنابةً له ، الممتلئ شوقاً إليه ، لا تغفل ، فقيمة الحال بطريق الإيمان ، الحال شيء مهم جداً ، الحال مشكلته مثل كهرباء السيارة ، إذا انقطع تيار الكهرباء تتوقف السيارة ، هذا إذا أصر الإنسان على معصية ، أو على صغيرة ، لكن إذا لم يكن هناك إصرار فلا مشكلة ، أما إذا أصر على معصية وقع الحجاب ، وبقي الإسلام ثقافة ، وعادات ، وتراثًا ، تسميه تراثًا ، تسميه عادات ، تقاليد ، ثقافة ، حركات ، سكنات ، تلاوات ، قراءات ، طقوسًا ، إذا لم يكن لديك اتصال بالله عز وجل فَقَدْتَ أجمل ما في الدين ، أجمل ما في الدين أن تشعر أنك من الله قريب ، لذلك فعن عبادة بن الصامت أنه قال : أفضل إيمان المرء أن يعلم أن الله معه حيث كان " .
[ كنز العمال المجلد الأول الإكمال ]
فلذلك إخواننا الكرام ، عندما يضحي الإنسان بشهواته فله قربٌ من الله ، وحينما يرتكب الإنسان كبيرة ، ويُحجَب نقول : هذا الحجاب يتناسب مع هذه الكبيرة ، أما معظم المسلمين فلا يزنون ، ولا يسرقون ، ولا يشربون الخمر ، ولا يقتلون ، فما الذي يحجبهم ؟ الصغائر ، غير معقول أن تُحجَب عن خالقك ، أن تُحجَب عن ربك لصغيرةٍ ترتكبها ، ضعها تحت قدمك ، عندئذٍ ربنا سبحانه وتعالى يتجلى على قلبك .
فكان هؤلاء يقولون : إذا أردنا أن نبكي قال بعضنا لبعض : قوموا بنا إلى هذا الفتى ـ كان صغيراً يقرأ القرآن ـ المطّلبي يقرأ علينا القرآن ، فإذا أتيناه ، واستفتح بالقرآن تساقط الناس بين يديه من شدة بكائهم .
أنـت بربك إذا كنت منيباً ، وتلـوت القرآن تشعـر لصوتك حلاوة وجاذبية ، القرآن نفسه تسمعه من إنسان غافل فلا تتأثر له ، تسمعه من إنسان مؤمن يكاد قلبك يذوب من شدة الخشوع .
وقال الربيع بن سليمان :" كان الشافعي يفتي وله خمسة عشر عامًا ، وكان يحيي الليل إلى أن مات" .
هذه نصيحة لإخواننا الذين عندهم أولاد ، فقدْ يكون عندك طفل ـ فِتِحْ بالتعبير العامي ـ أو متألق ، أو ذاكرته قوية ، أو منيب ، واللهِ لنا إخوان صغار يوم السبت ، يتحدثون حديثًا عن درس الجمعة لا يصدق ، كأنهم آلة تسجيل ، يذكرون العبارة بألفاظها ، فالذي عنده طفل ذكي القلب ، طيب الفؤاد ، فهذا الطفل يحتاج إلى عناية خاصة ، فلعله يكون داعيةً كبيراً ، عالماً كبيراً ، قارئاً كبيراً محدثاً كبيراً ، مصلحاً كبيراً ، جهبذاً ، وأثمن شيء تملكه أن يكون لك ابن صالح ، ينفع الناس من بعدك .
" كان الشافعي يفتي وله خمسة عشر عامًا ، وكان يحيي الليل إلى أن مات" ،
إخواننا الكرام ، لا يليق بنا أن نقف بالصلاة من دون خشوع ، لا يمكن أن يقبل الله هذه الصلاة ، توقفت ، وتوضأت ، واقتطعت من وقتك ما اقتطعت ، فلِمَ لا تتقن الصلاة ، بعض أنواع الصلوات تلف كالثوب الخرق ، ثم يضرب بها وجه صاحبها ، تقول له : ضيَّعتني ، ضيّعك الله كما ضيعتني ، فإذا وقفت للصلاة فاجتهد أن تتصل بالله ، وأن تتأمل معاني ما تقرأ، فالحد الأدنى أن تتأمل معاني ما تقرأ ، وأن تركع خاضعاً ، وأن تسجد مستعيناً ، وأن تقرأ الآيات متمعناً ،
الإنسان السكران كان يصلي قبل أن تحرّم الخمر تحريمًا قطعيًا ، فلا يعلم ما يقول ، فالإنسان إذا لم يعلم ما يقول كان في حكم السكران ، فعن عمار بن ياسر أنه قال :
إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ، ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها " .
تخريج أحاديث الإحياء للحافظ العراقي : [ أبو داود ـ النسائي ـ ابن حبان ]
أيها الإخوة ، قال أحد العلماء ، قال جعفر بن أخي : سمعت عمي يقول كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابًا في معاني القرآن ، يجمع فيه قبول الأخبار فيه ، وحجة الإجماع ، وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة ، فوضع له كتابَ الرسالة ، كتاب الرسالة للإمام الشافعي يعدُّ أول كتاب في أصول الفقه ، وأصول الفقه كما قيل : "العلماء العاديون أمام علماء الأصول كالأمِّيِّين" ، فهو أعلى علم ، علم كيف تستنبط الأحكام الشرعية من النصوص الكلية ، كتاب الرسالة للإمام الشافعي يعدّ أول كتاب في أصول الفقه ، واسمه الرسالة .
الإمام أحمد بن حنبل كان يقول : "ستةٌ أدعو لهم سَحَراً ، الشافعي أحدهم" ، أنت تصلي تدعو لمن ؟ لمن تحب ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ أَسْرَعَ الدُّعَاءِ إِجَابَةً دَعْوَةُ غَائِبٍ لِغَائِبٍ "
[ الترمذي ]
دعاء الأخ لأخيه في ظهر الغيب لا يُردُّ ، أنت قد تدعو لأخيك في حضرته ، مجاملةً أو خوفاً ، أو تملقاً ، أو إرضاءً ، ولكنك لا تدعو له في غيبته إلا إذا كان محسناً ، الإمام أحمد بن حنبـل كان يقول : "ستةٌ أدعو لهم سَحَراً ، الشافعي أحدهم" ، فإذا علّمك أخ ، أو أكرمك بشيء ، أو قدّم لك شيئًا ، ودعوتَ له فهذا من الوفاء ، ليس ثمّة إنسان أحسن لإنسان إلاّ ويقدِّم له مساعدة ، أحيانًا يدُلُّه على خير ، يجد له عملاً ، أو يزوجه ، فإذا جاءك خير من إنسان فادع له بظهر الغيب ، لأن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب لا ترُّد ، عَوِّدْ نفسك أن تقول لكل مَن أسدى لك معروفًا : جزاك الله عني كل خير ، هكذا قال سعد بن الربيع ، حينما كان في النزع الأخير ، قالوا : أحيٌّ أنت أم ميت يا سعد ؟ قال : أنا مع الأموات ، ولكن بلِّغْ رسولَ الله مني السلام ، وقل له : جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته ، وقل لأصحابه : لا عذر لكم إذا خَلُصَ إلى نبيكم ، وفيكم عين تطرف .
فالإنسان يعوِّد نفسه أن يدعو لمن أحسن إليه ، وأن يقول : جزاك الله عني كل خير ، قال عبد الله بن أحمد : "كان أبي يدعو للإمام الشافعي ، ويكثر له الدعاء ، فقلت له : ومن الشافعي ؟ فقال : الشافعي كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظرْ هل لهذين من خلف ، أو منهما عوض؟".
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا ".
[ أبو داود ]
(مَن) لا تعني واحدًا ، بل تعني الجمع ، جاء مَن تحبه ، قد تعني أناسًا كثيرين تحبهم ، فالإمام الشافعي كان من مجدِّدي هذا الدين .
وكان أحمد بن حنبل لا يميل إلى أحد كما يميل إلى الإمام الشافعي ، انظر إلى الأئمة الكبار، لا يتحاسدون ، ولا يتنافسون ، ولا يطعن بعضهم في بعض ، بل كان كل منهم يعجب بالآخر ، ويثني عليه ، ويمدحه في حضرته ، وفي غيبته ، وإنّ الحسد من صفات ضعاف الخلق ، فالإمام أحمد بن حنبل كان يثني على الشافعي ، وكان لا يميل إلى أحد كما يميل إلى الإمام الشافعي .
وتذاكر بعض العلماء في مسألة فقال بعضهم : لا يصح فيها حديث ، قال : إن لم يصح فيها حديث ففيه قول للشافعي ، لشدة علمه ، ودقته ، وقوة استنباطه ، وحجته ، قول الإمام الشافعي يعد حجة عند بعض العلماء هكذا قالوا : الشافعي كلامه صواب .
وقال أبو عبيد : "ما رأيت رجلاً أعقل من الشافعي" ، والحقيقة ما مِن إنسان أعقل ممن يعمل لساعة الفراق ، ولا أحَدَ أعقل ممّن يعمل لآخرته ، ولا أحَدَ أعقل ممن يطيع الله ، لا أَحَدَ أعقل ممن يؤثر رضى الله على هوى نفسه ، ولا أعقل ممن يبذل في الدنيا .
مرة قال لي رجل : إذا رفّه المسلمُ نفسَه زيادة فهل عصى الله ؟ قلت له : هذا المال الزائد عن حاجتك يمكن أن يجعلك ترقى به في الجنة إلى أعلى عليين ، فإذا استهلكته في الدنيا تكون مغبوناً ، خذ من المال ما تحتاج ، ودع الباقي ، فَلَأَنْ ترقى في الجنة ، وتصل إلى أحد قصورها الكبيرة خير لك مِن الدنيا وما فيها .
حتى إن بعضهم قال : الشافعي إمام ، فمن الممكن أن تقول : فلان عالم ، مثلاً ، أو حافظ، وفلان محدِّث ، وفلان فقيه ، وفلان أصولي ، وفلان عالم عقيدة ، وفلان عالم بمتن الحديث ، وفلان قاضٍ ، وفلان مجتهد ، أما كلمة إمام فكبيرة جداً ، يعني إمام عصره ، فقال بعضهم : الشافعي إمام ، إمام لعصره ، سبحان الله فالإنسان أحياناً يغار من أخ فاقه في الدنيا ، يغار من إنسان حاز الدنيا ، ولا نغار من إنسان حاز الآخرة ، أو حاز علماً عظيماً ، أو عملاً طيباً ، أو ذكْراً عطراً ، أو فهماً لكتاب الله ، أو حفظاً لسنة رسول الله ، أو دعوة إلى الله .
وقال أبو ثور : من زعم أنه رأى مثل محمد بن إدريس في علمه وفصاحته ، ومعرفته ، وثباته ، وتمكنه فقد كذب ، كان وحيد عصره ، وفريد زمانه" ، والإنسان قد يكون في العصر وحيدًا ، هذه مرتبة عالية جداً ، وقد يكون له أنداد ، وأمثال كثيرون ، وأحياناً ينفرد عالِم في التفوق في عصره ، حتى يقال عنه : إنه وحيد عصره ، وفريد زمانه ، ويبدو أن الشافعي كان وحيدَ عصره ، وفريدََ زمانه .
قال : كان الشافعي مُنقَطع القرين في حياته فلما مضى لسبيله لم يُعوض بدلا منه ، الحقيقة الله ينزع العلم بموت العلماء ، يموت العالم فلا يأتي خلف له ، لذلك قال أحد العلماء : عندنا عالم جليل ، يحضر درسه ثلاثون أو أربعون رجلاً ، فلما توفاه الله سار في جنازته مليون إنسان ، وهناك عالم آخر ذو دعابة قال : يا إخوان أنا أسامحكم في الجنازة ، فتعالوا وأنا على قيد الحياة ، واحضروا درسي ، الناس يميلون إذا مات العالم إلى تقديسه ، ولكن النفع وهو حيٌّ يُرزَق ، فجالسوه ، وهو بين أظهركم ، تعلموا ، وخذوا منه ، واستفتوه ، واهتدوا بدعوته، فلما هلك قالوا لن يبعث الله من بعده رسولاً (سيدنا يوسف) ، المشكلة أننا يجب أن نعرف العالم في حياته ، وليس بعد مماته ، فلذلك قالوا : كان الشافعي مُنقَطع القرين في حياته ، فلما مضى لسبيله لم يُعوض بدلا .
وهنا نقطة هامة عن الإمام الشافعي ، وهي أنك قد تقرأ كتابًا لإنسان فتمتلئ تعظيماً لمؤلفه، فيه دقة ، ونصوص ، وأدلة ، وعمق ، وتعليل ، وتفسير ، وشمول ، واستيعاب ، وحجة قوية، وضع يده على الجرح ، ولامسَ شغاف القلب ، فترك أثرًا ، فإذا التقيت بهذا الإنسان تفاجأ أنه أقل من كتابه ، أنا كنت أقول : أحياناً تلتقي بإنسان له باع طويل في العلم ، لكن معاملته ليست كما ينبغي ، فتقول : ليت أخلاقه كعلمه ، وأحياناً تلتقي بإنسان أخلاقه عالية ، ولكن علمه قليل فتقول : ليت علمه كأخلاقه .
النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى سيدنا زيد الخير قال : لله درك يا زيد ، أيّ رجل أنت؟! ما وُصِفَ لي أحد فرأيته إلا رأيته دون ما وصف إلا أنت .
قد تسمع عن إنسان ، ثم تلتقي به فتراه أصغر ممّا وُصف لك ، تسمع عن مكان ، ثم تذهب إليه فتجده أقلَّ مما وُصِفَ لك ، وتسمع عن آلة ، فتشتريها ، وتستعملها فإذا هي أقلُّ مما ذكر لك ، أكثر الناس وصفُهم أكبر من واقعهم ، فإذا التقيت به كان بحجمٍ أقل .
لله درك يا زيد أي رجل أنت ؟! ما وُصِف لي أحد فرأيته إلا رأيته دون ما وصف ، إلا أنت لما رأيتك كنت أكبر مما وصف لي .
قد تقرأ كتابًا لمؤلف ، فإذا التقيت به ألفَيتَه أصغر من حجمه ، حدثني أخ درس في الجامعة علم النفس ، وفيها أحد أكبر علماء النفس في قطر عربي ، فهذا العالم له مئات الكتب له ، قال لي اسمه كبير جداً ، وفي أحَد المؤتمرات حضر هذا العالم ، وجلس معه في جلسة فرآه دون كتبه ، هنا القول : ما رأيت أحداً إلا وكُتُبُه أكبر من مشاهدته ، إلا الشافعي إن شاهدته فهو أكبر من كُتُبِه ، أحياناً تقرأ كتابًا فترى أن الكتاب أكبر من مؤلفه ، نحن اتفقنا ليكن علمك كأخلاقك ، لكي لا يقال : ليت علمه كأخلاقه ، أو ليت أخلاقه كعلمه .
قال أحدهم : "لو أن الشافعي ناظر على هذا العامود الذي من حجارة على أنه خشب لغلب من يناقشه لاقتداره على المناظرة" ، أي عنده حجة قوية جداً ، وبالمناسبة فإنّ الله عز وجل ما اتخذ ولياً جاهلاً ، ولو اتخذه لعلّمه ،
قد يأتي إنسان له براعة في الكلام ، يكلم مؤمنا ، ويستخف به ، ينقض له كلامه في جلسة ، ويكون الشخص مبتدعًا ، منحرفًا ، خبيث النفس ، أفكاره منحرفة ، فإنّ تتكلم ، وتؤثر في الناس ، يفاجئك بسؤال يحرجك به ، ويسكتك ، هذه مشكلة ، لذلك أثمن شيء أن تتعلم ، أحياناً تخسر مائة شخص بمناظرة ، أنت لا توطن نفسك لتجلس مع مؤمنين ، تضطر أن تجلس مع أناس منكرين ، مع أناس عقيدتهم زائغة ، مع أناس دنيويين ، منحرفين ، هؤلاء عندهم حجج واهية ، ينقضون بها كلام أهل الحق ، فلما لا يكون مع الإنسان حجة قوية يضعف مركزه ، قالوا : "لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة على أنه من خشب غلب خصمه لاقتداره على المناظرة" ، وكان الحميدي إذا جرى عنده ذكر للشافعي يقول : "حدثنا سيد الفقهاء الشافعي" .
وقال الشافعي عن نفسه : "سُمَّيتُ في بغداد ناصرَ الحديث" ، والآن سوف يأتي معنا كلام مهم جداً على علم الكلام ، المُزَني يقول : "ما رأيت أحسن وجهاً من الشافعي ، وكان ربما قبض على لحيته فلا تفضل عن قبضة" ، لحيته وفق السنة ، ما رأيت أحسن وجهاً من الشافعي ، يجب أن نعلم علم اليقين أن وجه الإنسان صفحة نفسه ، أحيانا تقرأ في وجهٍ الطُّهرَ ، وتقرأ في وجه البراءة ، وتقرأ في وجه الشوق إلى الله ، وتقرأ في وجه الإقبال على الله ، فالإنسان يتألق من وجهه ، أنت اذكر الله ربع ساعة ، صلِّ صلاة متقنة ، اقرأ القرآن ، وانظر إلى وجهك تراه متألقاً ، تراه كالبدر ، كان عليه الصلاة والسلام يتألق وجهه كالبدر ليلة النصف ، "ما رأيت أحسن وجهاً من الشافعي ، وكان ربما قبض على لحيته فلا تفضل عن قبضة" .
وقال معمر بن راشد : سمعت المأمون يقول : "قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملاً " ، وعند الإمام الغزالي بحثٌ عن صفة الإمام الكامل ، فهو إنسان وفق الكتاب والسنة ، منضبط بأقواله وأفعاله وأحواله واتصاله بالله عز وجل وورعه الشديد ، وقيامه بالواجبات الدينية ، دخله حلال ، فإنسان بهذا المستوى إنسان عظيم ، الحقيقة أن الأنبياء معصومون ، إلا أن الأولياء محفوظون ، ومعنى أنهم محفوظون أي لا تضرهم معصية ، بمعنى أنهم إذا زلّت قدمهم ، فسريعاً ما يتوبون إلى الله عز وجل ، ويستغفرون .
كان سفيان بن عيينة إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا التفت إلى الإمام الشافعي ويقول : "سلوا هذا " ، إذا سئلتَ سؤالا لا تعرف جوابه فدُلَّ على مَن يجيب عنه ، وهذه صفة العلماء ، قد يكون الإنسان في الفقه متفوقًا ، وأنت متفوق في التفسير ، إنسان متفوق في المواريث ، وآخر في التجويد متفوق ، سئلتَ سؤالاً متعلقًا بالتجويد فقل : اسألوا فلانًا فهو أعلم مني ، هذه من صفات العلماء ، ليس ثمة إنسان يعلم كل شيء ، فالذي يعلم كل شيء لا يعلم شيئاً ، دائماً هناك اختصاص ، أنت تتفوق في شيء ، وحَوِّل الناس إلى مَن هو مختص بهذا الشيء .
الشافعي أول من قال : "الخلفاء خمسة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز" ، أول من وصف سيدنا عمر بن عبد العزيز بأنه خامس الخلفاء الراشدين هو الإمام الشافعي .
يقول الشافعي : "من تعلم القرآن عظمت قيمته ، ومن تكلم في الفقه نبل قدره ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن نظر في اللغة رق طبعه ، ومن نظر في الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه" ، والله هذا قول رائع ، الحساب يعطيك رياضة ذهنية اللغة والأدب تعطيك رقة في الطبع ، الحديث يعطيك قوة في الحجة الفقه يعطيك مكانة في المجتمع ، القرآن يعطيك قيمة في المجتمع أنت اقرأ القرآن ، وتعلم الفقه ، واحفظ الحديث ، واقرأ الأدب واللغة ، وتعلم الحساب من أجل أن تجمع المجد من كل أطرافه .
للشافعي كلمة رائعة يقول : "بئس الزاد إلى المعاد العدوانُ على العباد" ، الإنسان لو سأل نفسه : ماذا ادخرت إلى آخرتك ؟ هل لك عمل صالح ، إنفاق ، دعوة إلى الله ، تعليم ، رعاية للأبوين ، رعاية للأيتام ، تدرس في سبيل الله ، تصبر على الناس ابتغاء وجه الله ، هل لك عمل يكون زادك إلى الله ، أم - لا سمح الله ولا قدر -تكون من ذوي العدوان على العباد ؟ بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد .
قال أحدهم : لم يُحفَظ في دهر الشافعي أنه تكلم في شيء من الأهواء ، فمَن قدوته في هذا ؟ النبي عليه الصلاة والإسلام ،
صدقوني ، وأنا لا أحنث إن شاء الله أنّ تسعين بالمائة من كلام الناس ينطلق من أهوائهم ، يمدحون ما عندهم ، ويذمّون ما ليس عندهم ، الأم تمدح بناتها فقط ، ويكون بناتها في حال وسط ، تجعل من بناتها في أعلى مستوى ، يمدح الأب أولاده ، يمدح صنعته ، وقد تكون وسطًا ، فهذا كلام ينطلق من الهوى ، والنبي عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فنحن مفروض علينا أن نقتدي بالنبي ، وأن تقول الحقيقة ، وكنت أضرب مثلاً : هذا قدح ماء من بلور صافٍ ، لعله أجنبي ، إذا قلت لي : كريستال ثمنه ألف ليرة ، فأنت ما كنت منصفًا ، لكنك تكلمت بالأهواء ، وإذا قلت لي هذه صفيحة عليها صداء أيضاً لم تكن منصفًا ، فالعلم هو الوصف المطابق للواقع ، أكثر الناس إذا أحبوا شخصًا جعلوه ملكً ، وإذا فسخت خطبة ابنتهم أصبح الخاطبُ أسوءَ إنسان في الأرض ، واتهموه ، فهو لا يصلي ، ودخله حرام ، ويشرب الخمر ، إلى هذه الدرجة ، وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا *
[رواه الترمذي]
كن معتدلاً في مدحك وذمك ، قالوا : "لم يحفظ في دهر الشافعي كله أنه تكلم في شيء من الأهواء" ، ويقول الشافعي أيضاً : "المراء في الدين يقسي القلب ، ويورث الضغائن" ، هناك شخص مثلاً يحب المراء ، يحب المشاحنة ، والمجادلة في قضايا صغيرة وجانبية ، يكبرها ، ويرمي الناس بالكفار والشرك ، بأخطاء طفيفة ، فهذا إنسان عدواني ، هذا يتخذ الفكر سلاحًا له ، وما ضل قوم بعد إذ اهتدوا إلا أوتوا الجدل ، المشاحنة ، وتسفيه الآراء ، والطعن في الأشخاص ، وتقييم الآراء ، والتقليل من شأنها ، هذا كله من علامات الجهل ، لك أن تبدي رأيك دون مغالاة ، أنا لي طريقة أتمنى أن أوضحها لكم واسمها أسلوب التدخل الإيجابي ، لا تهاجم أحدًا ، وإياك أن تطعن في أحد ، ولا تسفه آراء أحد ، أنت قدم الشيء الإيجابي فقط ، قدم البضاعة الجيدة ، فهي وحدها تكشف زيف الأُخرى ، لا تقيِّم الآخرين ، قدم الشيء الثمين، في الدعوة إلى الله قدم علمًا عميقًا ، قدم حجة قوية ، قدم تطبيقًا عمليًا ، قدم قدوة حسنة فقط ، إياك أن تطعن في أحد ، أنت حينما تقدم كأسًا جيدة جداً ، وإنسانًا آخر قدم كأسًا غير جيدة ، وغير صافية ، فهُمْ يختارون الأفضل ، لا تقل له : هذه سيئة ، فهو عنده حس ، وسيكشف أنها سيئة ، تدخل مع الناس تدخلاً إيجابيًا ، ودع السلبيات ، لأن الأمة الآن بحاجة إلى وحدة صف، بحاجة إلى اجتماع كلمة ، بحاجة إلى أن نتعاون فيما اتفقنا ، بحاجة إلى أن يعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا ، بحاجة إلى التكاتف ، بحاجة إلى أن نلتقي عند المتفق عليه ، نحن بحاجة إلى أن نلتقي عند الأصول عند الجذع الواحد الموحد ، دعكم من الخلافات ، ما الذي فتت المسلمين تسفيه آراء الآخرين ، الطعن ، المشاحنة ، العدوان ، البغضاء ، الحسد .
المراء في الدين يقسِّي القلب ، ويورث الضغائن ، سألني أخٌ يومًا سؤالاً فقال : فلان إنسان مبتدع ، اتَّهم فلانًا بكذا وكذا ، فما قولك ؟ كلامه غلط ، هو إنسان جاهل ، وهذا الصواب ، فأثار ضغائن ، وأجَّجَ أحقادًا لم تكد تنتهي ، أحد علماء حمص الأجلاء توفي رحمه الله ، سمعت عنه أنه لا يجيب عن سؤال في موضوع أضيف إلى عالم وإنْ سألتَ فليكن سؤالك من دون أن تنسبه لمعيَّن ، ووطِّن نفسك ألاّ تجيب عن سؤال في موضوع أُلصِق بعالم ، أولاً لعله ما قال هذا الكلام ، وأنت غلطت ، عندنا مشكلة الأتباع ، هذه مشكلة كبيرة جداً ، فالأتباع يسيئون ثلاث مرات ؛ يسيئون الفهم ، ويسيئون النقل ، ويسيئون التصرف ، فهماً ونقلاً وتصرفاً ، فمن أجل ألاّ تُفتت الأمة ، وألاّ تشرذم ، وألاّ نضعف ، وألاّ يعادي بعضنا بعضاً ، وألاّ يطعن بعضنا ببعض ، فلا تجب عن سؤال في موضوع أُضِيفَ إلى عالم ، أمّا لو سألتني: ما قولك في الشفاعة ؟ لقلتُ لك رأيي في الشفاعة ، ما قولك في هذا الحديث ، هل هذا الحديث صحيح أم موضوع ؟ يا سيدي فلان قال على المنبر : هذا الحديث صحيح ، فهل هو صحيح ، أم هو موضوع ؟ يا بني هذا الحديث موضوع ، يا سيدي سألنا ، وقالوا : الحديث الذي قلته موضوع ، هكذا يفعل بعض الناس ، ترى الأتباع كلٌّ ينحاز إلى شيخه ، ويدافع عنه ويطعن في الآخرين ، وتنشب معركة ، ونحن في غنى عنها ، عاهدوا أنفسكم ألاّ تقبلوا فكرة مضافة إلى عالم ، اسألني ألف سؤال ، ولكن بلا ذكر عالم ، ما قولك فيمن يقول كذا وكذا ، ما قولك بالفكرة الفلانية ، بالحديث الفلاني ، هذا شيء جميل جداً ، وهذا الشيء يريح وتنتهي كل مشاكلنا ونبقى يحب بعضنا بعضاً ، ويعاون بعضنا بعضاً ، ينصر بعضنا بعضاً ، يقدر بعضنا بعضاً .
"المراء في الدين يقسّي القلب ، ويورث الضغائن" .
فمن إخلاص الشافعي أنه قال :" وددت أن الناس تعلموا هذا العلم دون أن ينسب إلي" ، طبعاً إذا اخترعت شيئًا ، والثاني أخذ الاختراع ، وادَّعاه لنفسه ، فصاحبه الأول ، يتألم ، ويقول لك: هذا تزوير ، إلا في الدين يا أخي خذ العلم ، وانسبه لنفسك ، وأنا أسامحك ، ولكن علِّم الناس ، فقدْ ترى إنسانًا يأخذ من كتابٍ خطبةً ، ويلقيها فيعتقد الناس أنه هو الذي كتبها ، قل : إنك أنت الذي كتبتها ، ونحن نسامحك ، ولا مانع .
أحيانا أسمع أن أناسًا أخذوا بعض الكتب ، وخطبوا منها ، ونجحوا نجاحًا كبيرًا ، وما قالوا: إن هذه الخطبة مأخوذة من هذا الكتاب ، ولا مانع ، أنت تريد الحق أن ينتشر ، وانتشر الحق، فقط في أمور الدين هناك تسامح .
فلذلك الشافعي يقول : " وددت أن الناس تعلموا هذا العلم دون أن ينسب إلي" ، تعلَّم الشيء ، وقل : هو من عندي نفسي ، وأنت مسامح ، ولكن علِّمه الناس ، هذا الإخلاص.
وقال أيضاً : "لا تخوضُنَّ في أصحاب رسول الله ، فإن خصمك هو النبي غداً " ، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام : إذا ذكر أصحابي فأمسكوا "
[ كنز العمال ـ الباب الثاني في الاعتصام بالكتاب والسنة ، عن ثوبان]
"لا تخوضُنَّ في أصحاب رسول الله ، فإن خصمك هو النبي غداً " ، يعني رئيسَيْ أركان اختلفا في موضوع استراتيجي ، وجندي غرّ دخل البارحة إلى الجيش ، فهل هذا أهلٌ ليفهَمَ مَن هو على حق ، ممرض صغير هل هو أهل أن يفصل بين جراحين للقلب ، أيهما أصوب ؟ نحن جئنا متأخرين ، كان الله في عوننا ، فنحن لسنا أهلاً أن نقول : فلان أصوب أم فلان ؟ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ "
[ الترمذي ]
هذا من خُلُق المؤمنين ، بقي موضوع أخير في الإمام الشافعي ، وهنا سؤال يطرح نفسَه ، لو أنّ إنسانًا تعلم من إنسان شيئًا ، وهذا الإنسان يحبه حباً جما إلى أعلى درجة ، ثم فوجئ أن في الحديث الشريف توجيه خلاف ما تعلم ، فماذا يفعل ؟ هل يقول : إنا وجدنا آبائنا على أمة ، أم يرجع إلى سنة النبي ، لكن مَن أعظم إنسان في نظرك ؟ تحب والدك ، تحب شيخك ، أعطاك توجيهًا معينًا ، ثم فوجئت أن في الحديث الشريف كلاماً غير صحيح ، صدقوني لو بقيتَ متمسكًا بقول مَن تحب ، ومن تعظم مخالفاً حديثَ رسول الله فأنت لست مؤمناً ، ولا تعرف النبي ، اسمعوا ما قال الشافعي ، قال :" إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ، فقولوا بالسنة ، ودَعُوا ما قلته" ، وله قول آخر : " فاضربوا بكلامي عُرض الحائط" .
وأنا أقول لكم : إذا سمعت توجيهًا من إنسان ، مهما كان كبيراً ، مهما كان عظيماً في نظرك ، مهما كان موثوقاً ، ثم اكتشفت أن سنة النبي الصحيحة خلاف ذلك ، وبقيت متمسكاً بكلام هذا العظيم ، مخالفاً سنة النبي الكريم ، فأنت لست مؤمناً ، أنت مع أشخاص لا مع رسول الله ، أنت مع الأهواء لا مع دين الله ، أنت مع ما يعجبك لا مع تقنع به .
قال : " إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ، فقولوا بالسنة ، ودَعُوا ما قلته ، قال له رجل : " تأخذ بهذا الحديث يا أبا عبد الله ؟ قال : متى رويت عن رسول حديثاً صحياً ، ولم آخذ به، والأصح من هذا متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً صحيحاً ، ولم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب" ، إذا رويت لكم حديثًا صحيحًا ، ولم آخذ به فاعتبروني مجنونًا ، وقال مرة : "أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أقل به" ، بربك كم حديث حفظته ولم تطبقه ، ولم تأخذ به ، اعملْ حسابًا لنفسك ، كم حديثًا صحيحًا شريفًا سمعته ، وسمعت تفسيره ، وفهمتَه ، وتحفظه ، ولا تأخذ به ، الشافعي قال : اتَّهِموني بالجنون إذا فعلت هذا ، نبي الله يقول لك : افعلْ ، ولا تفعل ، وأنت تفعل خلافه .
له قول آخر : كل حديث عن النبي فهو قولي وإن لم تسمعوه مني قال الشافعي : الحديث مذهبي ، كلام النبي ، هل هناك إنسان معصوم غير النبي ؟ ليس مِن إنسان مأمور أن نتبعه غير النبي ، عصمه الله ، وأمرنا أن نتبعه ،
هل لك خيار ؟ إذا وُجِدَ عندك إمكان أن تختار إنسانًا مهما بدا لك كبيراً ، مهما بدا لك عظيماً ، أعطاك توجيهًا خلاف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تعبأ بقول المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، لم تعبأ بقول سيد الأنبياء ، فأنت لا تعرف الله ، ولا تعرف رسوله ، أنت تمشي مع أشخاص لمصالح ، أو لعصبية عمياء ، أو لاعتزاز بالباطل ، أما إذا كنت مخلصاً في طلب الحق ، فلمجرد أن تطَّلع على حديث رسول الله تقف عنده ، ولا تعبأ بقول أحد ، كائناً من كان .
روى الشافعي يوماً حديثاً فسأله شخص : أتأخذ به ؟ قال له الشافعي : رأيتني خرجت من كنيسةٍ حتى لا أخذ به ، رأيت عليَّ زناراً ـ أي أنا ذِمّي ـ حتى إذا سمعت عن رسول الله حديثاً لا أقوم به .
إخواننا الكرام الحكم بيننا كلامُ رسول الله ، مشكلة بين زوجين ، فالنبي قال كذا ، النبي قال: لا تحمروا الوجوه ، لا تخجل إنسانًا ، كان عليه الصلاة والسلام لا يواجه إنساناً بما يكره، ممكن أن تقول له كلامًا تحرجه به ، تصغره ، تجتمعون في جلسة ، وتقول له : أخي حديثك لم يعجبني ، هذه خشنة ، أين الرقة ؟ هذا الكلام ليس صحيحًا ، النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يواجه أحداً بما يكره ، كان يصعد المنبر ، ويقول : ما بال أقوام يفعلون كذا ، ويكون الرجل الذي عمل السوءَ واحدًا ، يجب أن ينصحه ، ويجب ألا ّيحرجه ، ولا يحمر وجهه ، ولا يخجله ، ولا يصغره ، فقال على المنبر ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ، هذه سنة فإذا أنت تتكلم العكس فهذه مشكلة ، أما إذا أردت أن تواجه الناس بما يكرهون فأنت مخالف لسنة النبي عليه الصلاة والسلام ، طبعاً إلا إذا وُجدَ خطأ كبير ، كإنسان قال كلامًا غلطًا ، فأنا بأدب أقول له : هناك رأي آخر ، هل معك دليل ؟ هل معك حجة ؟ تعلموا من سيدنا الحسن والحسين ، لما شاهدا إنسانًا يتوضأ ، وأخطأ في الوضوء ، فطلبا منه أن يحكم بينهما في وضوئهما ، فلما رأى وضوءهما قال : أنا الذي غلطت .
والله قد تجد ألف أسلوب لتوجه الناس ، ويحبوك ، ولا تجرحهم ، هذه تحتاج إلى لباقة عالية جداً ؛ أن توجه إنسانًا راكضًا يريد أن يلحق الصلاة مع رسول الله ، فشوّش على المصلِّين ، ولكنه أدركَ الركعة ، فالنبي ماذا يقول له ؟ إذا عنفه قد يحرجه ، قال له النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ "
[ البخاري ـ النسائي ـ أحمد ]
لقد قيَّم له عمله ، وأثنى على حرصه ، ونبهه ألاّ يعود ، هكذا الدعوة .
استجابتنا للنبي هي عينُ استجابتنا لله ، كنا في عقد قران قبل أن آتي ، فاطرح موضوع المولد ، قلت في كلمة ألقيتها ،
قلت : إذا كان قلـب النبي ، وهو سيد الأنبياء والمرسلين يزداد ثبوتاً إذا قصت عليه قصة نبي دونه ، فكيف بمؤمن مقصِّر في آخر الزمان ، تتلى عليه قصة سيد الأنبياء ، أليست هذه الآية أقوى دليل على مشروعية الاحتفال بعيد المولد ، الاحتفال بعيد المولد ليس عبادةً ، إنما هو سلوك اجتماعي ينسحب على إطعام الطعام ، وعلى تذكير الناس بسيد الأنام ،
هكذا ، والله الإمام الشافعي إمام عظيم يجب أن نقف عنده درساً آخرَ ، له أقوال رائعة جداً، هؤلاء أئمتكم العظام ، هؤلاء الذين نقتدي بهم ، نقتبس من استنباطاتهم ، ومن أحكامهم الفقهية التي استنبطوها من كتاب الله وسنة رسوله .
والحمد لله رب العالمين