الإمام مالك بن أنس
لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسيبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام ، آخر الأئمة الفقهاء الأعلام ، الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو عبد اله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي المدني ، إمام دار الهجرة ، وهم حلفاء عثمان بن عبيد الله التيمي أخي طلحة بن عبيد الله أحد العشرة المشهود لهم بالجنة .
أيها الإخوة ، ذكرت في الدرس الماضي أن العبرة لا بالأشخاص ، ولكن بالقواعد التي يمكن أن نستنبطها من حياة هؤلاء العظماء ، لأن في حياة كل عظيم مبادئ ، في حياة كل عظيم قيم ، فنحن إذا وضعنا أيدينا على المبادئ التي اعتنقوها ، والقيم التي حكمت أفعالهم تعلَّمنا منهم الشيء الكثير .
الإمام أبو عبد الله الشافعي يقول : "إذا جاء الأثر فمالكٌ النجم" ـ نجم في هذا الحيز ـ بالمناسبة هذا يقودنا إلى قول العلماء بأن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم معصومة بمجموعها بمعنى أنها متكاملة ، فكل إمام نبغ في شيء فالأولى أن نعترف له فيما نبغ به ، إمام آخر نبغ في شيء آخر، إذا انطلق المسلمون في علاقاتهم من أئمتهم ومع دعاتهم ، ومع علمائهم ، إلى أن كل واحد منهم وفقه الله في باب من أبواب العلم ، وتفوق فيه وهو على علم بالأبواب الأخرى ، فهنا تفوق ، وأن هؤلاء العلماء متكاملون ، يكمل بعضهم بعضا ، وهم أُسرة واحدة ، لكُنّا في خير كثير ، ولكنّا في غنى عن كل هذه الخصومات ، والتقييمات الساذجة التي تجري بين الدعاة ، الخطأ الكبير أن تعتقد أن واحداً يعلم كل شيء ، فهذا شيء مستحيل ، بل إنّ المقولة الصحيحة هي أنّ الإنسان الذي يعلم كل شيء لا يعلم شيئًا ، الاختصاص أساسي في حياة الإنسان .
الكلمة : "إذا جاء الأثر ، يعني طرحت النصوص ، أحاديث صحيحة فمالكٌ النجم" ، الأول ، مثلاً إذا جاء الاستنباط فالإمام أبو حنيفة الأول ، إذا جاء تاريخ الصحابة مثلاً فالشافعي الأول ، فكل إمام تفوق في شيء وكان في الحد المعتدل في الأشياء الأخرى .
قالوا : "لولا مالك لذهب علم الحجاز" ، علم الحجاز يعني علم الأثر ، هؤلاء الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هؤلاء الذين حفظوا الدين ، لذلك علماء الحديث لهم فضل كبير، لأن الله عز وجل تولى حفظ القرآن الكريم ، ومِن متممات حفظ القرآن الكريم حفظ سنة النبوية ، وهؤلاء العلماء الأعلام الذين حفظوا السنة لهم فضل على هذه الأمة .
"إذا جاء الأثر فمالٌك النجم ، لولا مالك لذهب علم الحجاز" ، وقال بعضهم : "أئمة الناس في زمانهم أربعة ، الثوري بالكوفة ، ومالك بالحجاز ، والأوزاعي بالشام ، وحماد بالبصرة" ، هذه حقيقة ثانية ، أي أن الله عز وجل رب العباد جميعاً ، يحب كل عباده ، لذلك الدعاة والعلماء ، والمصلحون ، والقضاة ، والمفتون ، والمجتهدون ، هؤلاء المجددون للدين ، وزَّعهم ربنا جل جلاله توزيعاً جغرافياً ، واللهُ عز وجل أجلُّ وأكرمُ مِن أن يخص بلدةً واحدة بكل العلم ، وأن يحرم الباقين من العلم ، يوجد توزيع دقيق جداً لذلك استمعوا إلى مقولة أحد العلماء : لا يستطيع إنسان مهما علا شأنه أن يحتكر الدين ، لا إنسان ولا جماعة ، ولا طائفة ، ولا مذهب ، ولا قطر ، ولا مصر ، ولا إقليم ، ولا حقبة ، ولا فئة ، ولا أمة ، الدين كالهواء للناس ، لا يمكن أن يحتكر ، الله عز وجل يجعل في كل بلد ، وفي كل إقليم ، وفي كل حي علمًا وعلماء .
انظروا إلى هذه الكلمة ما أجملها : وقال بعضهم : "أئمة الناس في زمانهم أربعة ، الثوري بالكوفة ، ومالك بالحجاز ، والأوزاعي بالشام ، وحماد بالبصرة" ، وأنا أقول لكم في كل بلد إسلامي علماء مخلصون ، عاملون ، يؤدون واجباتهم التي أوكلها الله إليهم ، فمن السذاجة أن تقول : الدين في هذا المكان ، وليس في أي مكان آخر ، لكنْ قد يشتد الإقبال على الدين في بلد ، ويقلّ في بلد آخر ، أمّا أن ينعدم فهذا مستحيل ، لأن الله سبحانه وتعالى يقيم الحجة على خلقه دائماً ، كيف تقام الحجة على خلقه ؟ بأنْ يكون في كل مكان علماء عاملون .
الشيخ محي الدين له كلمة مكتوبة إلى جانب قبره :
لكل عصر واحد يسمو به وأنا لهذا العصر ذاك الأوحد
نحن لا علاقة لنا بهذه الشطحة ، ولكن لكل عصرٍ مسلم يسمو به الله ، جعل لكل عصر من ينهض بهذا الدين ، من يجدد هذا الدين ، من يعيد إلى الدين صفاءه ، من يعيد إلى الدين نقاءه ، من يضع يده على جوهر الدين ، من يبث به الروح التي فقدت مع تأخر الأيام ، هذه النقطة الثانية ، أنا أذكر الأقوال وأنطلق منها إلى قواعد عامة .
وقال ابن أبي عمر العدني سمعت الشافعي يقول : "مالك معلمي ، وعنه أخذت العلم" ، فإذا اعترفتَ بالفضل لأولي الفضل فهل تقلُّ مكانتك ؟ أبداً ، إذا اعترفت أنك استفدت من هذا العالم وأنك أخذت العلم عنه فهل هذا يدعو إلى أن تجرح مكانتك بين الناس ؟ كلا ، إنّ الشافعي إمام عظيم يقول : "مالك معلمي ، وعنه أخذت العلم" ، وكان صلى الله عليه وسلم يجلس إلى جانبه سيدنا علي كرم الله وجهه ، فلما دخل أبو بكر قام له فتبسم النبي وسرَّ سروراً عظيماً ، فعن أنس رضي اللّه عنه : إِنَّمَا يَعْرِفُ الْفَضْلَ لأَهْلِ الْفَضْلِ أَهْلُ الْفَضْلِ"
[ زيادة الجامع الصغير للسيوطي ]
فجزءٌ من علمك أن تعرف أخبار الآخرين ، جزء من دينك أن تنصف الناس ، جزء من عدالتك ألاَّ تجحد فضل أحد ، سمعت الشافعي يقول : "مالك معلمي ، وعنه أخذت العلم" .
الآن استمعوا إلى هذا الأدب الرفيع ،
كان مالكُ بن أنس إذا أراد أن يخرج ليحدثُ الناس توضأ وضوءَه للصلاة ، ولبس أحسن ثيابه، ولبس قلنسوةً ، ومشط لحيته ، فقيل له في ذلك فقال : "أوقِّر به حديث رسول الله" .
أكاد أقول لكم : بقدر معرفتكم بالله ، وتعظيمكم له تعظمون شعائره ، هل تصدقون أن الإنسان إذا ألقى المصحف على الطاولة إلقاءً يريد بهذا أن يهينه فقد كفر ، هذا كفرٌ عملي ، هناك كفر قولي ، وهناك كفر سلوكي ، فيكفي أن تضع المصحف على الطاولة بعنف أنْ يكون كفرًا عمليًا ، مثلاً أكثر الناس يقول لك : في السوق أدفع بالتي هي أحسن ، ويكون له دينٌ على رجل ، فهذا لا يجوز ، لا يجوز أن تستخدم آية من القرآن الكريم لغير ما أنزلت له ، كذلك لك صديق اسمه يحيى ، فتقول : يا يحيى خذ الكتاب بقوة ، هذا استخفاف بالقرآن الكريم ، لا تستخدم آية لشأن من شؤون حياتك ، فلذلك كلما ازداد الأدب في الإنسان عبر عن عِظَمِ إيمانه بالله عز وجل ، فكان يلبس أجمل ثيابه ، ويتوضأ ، ويضع قلنسوته ، ويمشط لحيته ، ويتعطر ، لماذا تفعل هذا يا إمام ؟ قال "أوقِّر به حديث رسول الله" .
هناك صحابي جليل يقول : "والله منذ صافحت يدي هذه يدَ رسول الله ما مست عورتي طول حياتي"، هذه اليد التي صافحت يدَ رسول الله أبقاها طاهرةً نقيةً من كل شيء يشينها .
للإمام مالك وصفٌ آخرُ : "كان مالك بن أنس إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل ، وتبخر ، وتطيَّب، فإن رفع أحد صوته في مجلسه زجره" ،
أين توقير النبي ؟ هذا حديثه ، كان يفهم هذه الآية أن الإنسان إذا جلس في مجلس حديث رسول الله لا ينبغي أن يرفع صوته لأنك في حياة النبي لا ينبغي أن ترفع صوتك أمامه ، وبعد حياة النبي لا ينبغي أن ترفع صوتك في مجلس يتلى فيه حديثه ، أرأيتم إلى هذا الأدب هذا أدب آخر.
قالوا : "ما كان أشد انتقاد مالك للرجال ، وما أشد علمه بشأنهم" ، لأن هذا الحديث أساسه السند ، فإذا كان الإنسان كذابًا ، مزورًا ، مدلسًا ، مشكوكًا في أخلاقه تكلموا فيه جرحًا وتعديلاً ، وبالمناسبة علماء الحديث يقيِّمون الناس وفق مبدأين ؛ العدل والضبط ، العدل صفة نفسية ، والضبط صفة عقلية ، قد يكون الإنسان شديد العدالة ، لكنه ضعيف الضبط ، قد يكون شديد الضبط ضعيف العدالة ، وكلكم يعلم أن العدالة تسقط وتجرح .
"مَن عامل الناس فلم يظلمهم ، وحدَّثهم فلم يكذبهم ، وعدهم فلم يخلفهم ، فهو ممّن كملت مروؤته ، وظهرت عدالته، ووجبت أخوَّته ، وحرمت غيبته" ، معنى هذا أن الظلم يسقطها ، والكذب يسقطها ، وإخلاف الوعد يسقطها .
لديك كأس بلور ، أتيت بمطرقة ، وحطمتها ، فهذا معناه سقوط العدالة ، وأحياناً هذه الكأس تُشعَر ، وتبقى كأساً ، إلا أنه سقطت قيمتها ، العدالة إما أن تسقط أو أن تجرح ، تجرح بأشياء كثيرة تعرفونها جميعاً ، وذكرتها لكم كثيراً ن و لقد ذكرها المحدِّثون والفقهاء ، تجرح بأكل لقمة من حرام ، تجرح بتطفيف بتمرة ، تجرح بحديث عن النساء ، بتنزه في الطرقات ، بصحبة الأراذل ، تجرح في المشي حافياً ، في البول في الطريق ، تجرح بارتفاع الصوت في البيت ، تجرح بإطلاق البرذون ، أو إطلاق العنان للفرس ، هذه كلها تجرح العدالة ، لذلك كان الإمام مالك مِن أعلم العلماء بالرجال ، والحقيقة هذا علم تنفرد به الأمة الإسلامية ، فلا توجد أمة عندها علم الجرح والتعديل إلا الأمة الإسلامية ، وكذلك علم الرجال كالأمة الإسلامية ، لدرجة أن الذي يكذب على فرسه لا يمكن أن يأخذ المحدِّثون عنه حديث رسول الله ، أوهَمَهَا أن في ثوبه شعيراً كي تأتي إليه ، فلما وصل إليه طالب العلم لم يجد الشعير ، فتركه وعاد إلى المدينة ، عاد إلى المدينة من البصرة ، قضى فيها أشهرًا في طريقه إلى البصرة ليتلقى حديثاً عن رجل ، فإذا بهذا الرجل يكذب على فرسه ، فتركه وعاد إلى بلده .
سُئل مالك عن رجل :" أتعرف فلانًا ؟ فقال مالك : أرأَيتَه في كتبي ؟ قلت : لا ، قال : لو كان ثقةً لرأيته في كتبي" ، شيء رائع جداً أنه ما ذكر في كتبه إلا رجالاً ثقات ، وقال علي : "لا أعلم مالك ترك إنساناً إلا إنساناً في حديثه شيء" ، يعني صفة غير لائقة.
نحن في الحقيقة مدينون بالفضل إلى علماء الحديث ، لدرجةٍ تفوق حد الخيال ، لأنهم الذين حفظوا الدين لنا ، لأن القرآن الكريم أحكام كلية ، بيَّنها النبي عليه الصلاة والسلام ، وفصّلها ، وقيد مطلقها ، خصص عامها ، حدد مفاهيمها ، فإذا ضاع الحديث ضاع الدين ،
قال : "كل من روى عنه مالك بن أنس فهو ثقة" ، وله كتاب شهير اسمه موطأ الإمام مالك ، كلكم يعرف ذلك .
قال : سأل أحدهم : مَن في المدينة اليوم يفتي ؟ قال : "ما ثم مثل فتىً من ذي أصبح يقال له مالك بن أنس" ، حتى درجتْ تلك المقولة الشهيرة : "لا يُفتَى ومالك في المدينة" ، يقال : إن من أدق فتاويه أن مغسلةً كانت تغسل امرأةً ، واللهُ أعلم بصحة هذه القصة ، لكن لها معنى دقيق ، يد هذه المغسلة التصقت بجسد الميت ، ولا سبيل إلى نزعها ، جرت محاولات يائسة ، ويد المغسلة وجسم الميتة شيء واحد ، اقترحوا قطع لحم الميتة ، أو اقترحوا قطع جزء من يد المغسلة ، ثم سألوا الإمام مالك فقال : هذه المغسلة اغتابت هذه الميتة ، واتهمتها بالزنا ، فقال : اضربوها ثمانين جلدة ، ومع الضربة الثمانين فَكَّتْ يدها عن جسدها .
هذا من فتاوى الإمام مالك ، لأن قذف محصنة يهدم عمل مئة سنة ، فقبل أن تتهم امرأة بالزنا عدَّ إلى المليار ، إلا أن ترى بعينك كل شيء ، وليس : سمعت ، وقيل ، لا تجد إنسانًا ليس له خصوم ،
قضية أعراض المسلمين لها عند الله شأن كبير ،
فلذلك صوناً لأعراض الناس ، ومنعاً للقيل والقال ، ومنعاً للإنسان أن يخوض فيما لا يعينيه الشرع ، قرَّرَ الشرعُ أنّ من قَذَفَ محصنةً جُلِد ثمانين جلدة ، حتى وأغرب من ذلك لو أن ثلاثة رجال رأوا بأعينهم حادثة الزنا ، ولم يأتوا برابع جُلِدَ الثلاثة ، فالشرع دقيق ، وأعراض المسلمين ليست مباحة ، ولا يجوز أن تلوكها الألسن ، الإنسان قبل أن يقول : جارتنا ، زوجة فلان ، ويعمل الصدرَ من قميصه هكذا ، فاحفظوا هذه المقولة : قذفُ محصنةٍ يهدم عمل مائة سنة .
قدم علينا الزهري ، فأتيناه ومعنا ربيعة ، فحدثنا نيفاً وأربعين حديثاً ، ثم أتيناه الغد ، فقال : انظروا كتاباً حتى أحدثكم منه ، أرأيتم ما حدثتكم به أمس أي شيء في أيديكم منه ؟ فقال له ربيعة: "قيِّدوا العلمَ بالكتابة" ـ هذه نقطة دقيقة جداً ، حينما تقرأ على إخوانك من كتاب ، ومعهم الكتاب نفسه فهذا مدعاة إلى حفظ الدرس ، لذلك قيدوا العلم بالكتابة ، كل ما ليس في القرطاس ضاع ، القاعدة الذهبية : اكتبْ أجمل ما قرأت ، واحفظْ أجمل ما كتبت ، فلا تجد إنسانًا يريد أن يتحدث للناس بالحق إلا ويحتاج إلى كتابة ، وتذكرة ، أوراق بين يديه ، دفتر صغير ، الإنسان أحيانا يسمع حديثًا شريفًا رائعًا ، يعجب به آنياً ، يطلبه بعد ساعة ولا يكون قد حفظه ، يقول لك: هذا الدرس جميل جدا، ً ولكنني لا أتذكر منه شيئًا ، هل مِن المعقول أن تسمع طول عمرك ؟! إلى متى ؟ ألا ينبغي أن تلقي ؟ أنت الآن محسوب على المسلمين ، طالب علم ، لك شيخ ، تتعلم، أين أنت في الجامع ؟ من أين أتيت ؟ مِن الجامع ، ألا يجب أن تحفظ شيئًا من الجامع ، إذا جلست مع أهلك في دعوة ، أو نزهة ، أو حفلة ، أو عقد قران فحدِّثهم مما حفظتَ.
وفي النهاية الذاكرة مهمة جداً ، إذا سمع الإنسان شيئًا ، وكتبه في دفتر صغير ، سمع حكمة ، سمع مقولة ، سمع حديثًا ، أو آية فكتبها ، فلْيراجعها ، درس الجمعة درس تفسير ، ومعكم مصاحف ، فإذا رجع الإنسان إلى البيت ، وراجع الآيات ، حول هذه الآية قيل : كذا وكذا ، وحول هذه قيل : كذا وكذا ، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ... "
[ البخاري ـ الترمذي ـ أحمد ـ الدارمي ]
أنـت الآن أصبحت داعية ، قالوا : "قدم وكيع علينا ، فجعل يقول : حدثني الثبت ، فظننا أنه اسم رجل ، فقلنا : من هذا الثبت أصلحك الله ، قال : مالك بن أنس" ، الثبت : أي الدقيق في حفظه ، الدقيق في روايته ، عدل في أخلاقه ، ثبت في حفظه .
قال ابن المهدي : "ما رأيت أحداً أعقل من مالك " ، وهناك بعض الأقوال عن الإمام مالك هي في الحقيقية منامات ، وأنا ليس من عادتي أن أجعل من عماد الدرس الكرامات ، ولا المنامات ، مع أني أعتقد بها ، الكرامة أعتقد بها ، وأصدقها ، ولا أرويها إلا إن كان فيها نص صحيح ، ولكن مثلاً : قال : كنت عند مالك بن أنس فأتاه ابن أبي كثير قارئ أهل المدينة ، فناوله رقعةً ، فنظر فيها مالك ، ثم جعلها تحت مصلاه ، فلما قام من عنده ذهبتُ ، فقال : اجلسْ يا خلف ، وناولني الرقعة ، فإذا فيها : رأيت الليلة في منامي كأنه يقال لي : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فأتيت المسجد فإذا ناحية القبر قد انفرجت ، وإذا رسول الله جالس ، والناس حوله يقولون له يا رسول الله مُرْ لنا ، فيقول له : إني قد كنزت تحت المنبر كنزاً ، وقد أمرت مالكاً أن يقسمه فيكم ، فاذهبوا إلى مالك ، فانصرف الناس ، وبعضهم يقول إلى بعض : ما ترون مالكاً فاعلاً ؟ قال بعضهم : ينفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما سمع مالك بكى .
الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له ، بشارة من الله ، فإذا صلح حالُ الإنسان مع الله كثيراً ، وأخ كريم رأى له رؤيا ، وهي بشارة من رسول الله ، أو من صحابي جليل ، أو من عالم جليل ، أو رآه في حالة جيدة ، ونقلها له ، فهذه بشارة ، فكأن هذا المنام بشارة لسيدنا مالك أن له مقام رفيع عند رسول الله ، ونسأل الله أنْ يجعلنا من هؤلاء الذين يستحقون أن يُبَشَّروا ، ولكن واللهِ لو أن إنسانًا أكرمه الله بأن يرى رسول الله في المنام ، فلعله يبقى أشهرًا تلو الأشهر ، وهو منغمس في سعادة لا توصف ، لأن سيد الخلق قمة البشر في حبه وفي أحواله وفي إقباله ، وفي سعادته .
قال ابن المهدي : "ما رأيت أحداً أعقل من مالك" .
قال أحد العلماء : سمعت مالكاً سُئِل عن ثمانية وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، الإمام مالك إمام دار الهجرة ، العالم الفذ ، الراوي ، المحدث ، المجتهد ، قال أحد العلماء سمعت مالكاً سئل عن ثمانية وأربعين مسألة ، فقال في اثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، فوطِّنوا أنفسكم أن نصف العلم لا أدري ، ومن قال : لا أدري فقد أفتى ، فلا تخجل ، قل : لا أدري ، وأنت عالم ، أما إذا تكلمت بكلام على عواهنه فهذا هو الجهل بعينه ، والعياذ بالله ، فإما أن تفتي بعلم ، وإما أن تفتي بجهل ، وأما الثالثة فإجرام ، بأن تفتي بخلاف ما تعلم ، تعلم حكمًا شرعيًّا ، ولكن لمصلحة دنيوية تفتي بخلاف ما تعلم .
إنْ أفتيتَ بعلم نجوت ، وإنْ أفتيتَ بجهل سقطت ، وإنْ أفتيتَ بخلاف ما تعلم فقد أجرمت .
بكل بساطة في بعض الأقطار الإسلامية أفتى عالم من علماء ذاك البلد ، ويحتل منصبًا رسمي في الإفتاء ، أفتى بجواز القرض الربوي ، وفي اليوم التالي وضع الناسُ في البنوك أربعة وثمانين مليارًا من عملة ذلك البلد ، ألم يقل الإمام أبو حنيفة لطفل : يا غلام إياك أن تسقط ، قال: بل أنت يا إمام إياك أن تسقط ، إني إن سقطتُ سقطتُ وحدي ، وإنك إن سقطتَ سقطَ معك العالَمُ.
وفي قول آخر : "قدمت على مالك بأربعين مسألة ، فسألته عنها ، فما أجابني منها إلا بخمس مسائل".
قال النسائي : "أمناء الله على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة ؛ شعبة ، ومالك ، ويحيى القطان " ، مالك أحد أمناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على علمه ، وكان الأوزاعي ، وهو عالم جليل إذا ذكر مالكاً قال : "عَلَم العلماء ، ومفتي الحرمين" .
يروى أن الإمام مالكًا رأى في النوم ملك الموت ، وهذا موضوع الاختصاص ، فقال : يا ملك الموت ، كم بقي لي من عمري ؟ ففعل هكذا ، وأشار بأصابعه الخمسة ، فلما استيقظ ازداد قلقاً ، يا ترى خمس سنوات ، أم خمسة شهور ، أم خمسة أسابيع ، أم خمسة أيام ، أم خمس ساعات ، فذهب الإمام مالك إلى إنسان مختص في تفسير الأحلام ، هو ابن سيرين ، وقال له : فسر لي هذه الرؤيا ، قال : يا إمام ، يقول لك ملك الموت : إن هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله ، وهذا من الاختصاص في الدين ، فزال اضطرابه .
قال بعض العلماء : "مالكٌ من حجج الله على خلقه" ،
ليس في الإسلام مؤمن صادق إلاّ ومعه حجة قوية ، وإلا أصبح الدينُ لا معنى له ، صالح فقط، آدمي يخاف من الله ، وإذا ناقشته يرتدع ، أليس هذا هو الإيمان ؟ هذا عابد ، وليس عالمًا، ولكنَّ عالمًا واحدًا أشد على الشيطان من ألف عابد .
قال ابن الفرات : "إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك " ، هذا الكلام شرعي ؟ هناك دليل قرآني على شرعيته ، إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك ،
إذا أردت الله والدار الآخرة فابحث عن رجل تثق بعلمه وإخلاصه ، وورعه ، واستقامته ، فالزمه ، وخذ عنه ، واسأله ، واجعله قدوةً لك ، "إذا أردت الله والدار الآخرة فعليك بمالك" .
وقال أبو عاصم : "ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك" ، الله عز وجل لحكمةً أرادها جعل وجه المخلص متألقًا ، وجعل وجه العاصي ترهقه غبرة ، أولئك هم الكفرة الفجرة .
إذا كان الإنسان مرتكبًا معصية فآثار معصيته تبدو على وجهه ، يروى أنه دخل رجل على سيدنا عثمان فقال : "أيدخل علينا رجل وأثر الزنا في عينيه ؟ فقالوا : أوحي بعد رسول الله ؟! قال : لا، ولكنها فراسة صادقة" ، ترى العاصي على وجهه قتامة ، وجهه جامد ، وفيه فتور ، والطائع وجهه متألق ، وجرِّب ، واقرأ القرآن الكريم بإخلاص ، صلِّ الصلاة بإتقان ، تهجد ، ابتهل وانظر في المرآة ترى جمالاً وتألقاً لم تعهده من قبل ، وقالوا الوجه صفحة النفس .
وقال أبو عاصم : "ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك" ، النبي صلى الله عليه وسلم كان وجهه كالقمر ليلة البدر ، وقال : "ما رأيت بياضاً ولا حمرةً أحسن من وجه مالك ، ولا أشد بياضًا ببياض ثوب منه" ، وجه متألق ، وثوب نظيف ، من الذي قال لك : إنّ الإنسان كلما كان مهمِلاً لمظهره فهو وليٌّ لله ، هذه مقولة شيطانية ، كان عليه الصلاة والسلام يُعرَف بريح المسك ، كان يقول : " ... فَأَصْلِحُوا رِحَالَكُمْ وَأَصْلِحُوا لِبَاسَكُمْ حَتَّى تَكُونُوا كَأَنَّكُمْ شَامَةٌ فِي النَّاسِ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَلا التَّفَحُّشَ "
[ أبو داود ـ أحمد ]
أنت تمثل الدين ، هل يستطيع ضابط أن يركب دراجة ، إخواننا الذين خدموا الخدمة الإلزامية، في النظام العسكري يعرفون أنّ ضابطًا برتبة ملازمٍ فما فوق لا يُسَمح له أن يركب دراجة ونحوها ، ممكن للمسلم أن يكون له زيٌّ إسلامي ، مظنة صلاح ، أنا مرة أحد أقربائي توفي ، فذهبت إلى متابعة المعاملة ، لحق بسيارتي السيارة خمسة وعشرون شخصًا ، كلهم قراء القرآن الكريم ، يتزاحمون ليقرؤوا في المساء ـ أيْ يقرؤون القرآن في بيت الميت ـ فهل هذا يليق بهؤلاء ؟ الذي يحفظ كتاب الله لا ينبغي أن يكون هكذا ، ترى شخصًا بأي سلك محترمًا ، إذا كان موظفًا مثلاً في شركة محترمة فيُمنَع أن يلبس قميصًا مزركشًا ، وإذا كان للمرءِ علاقات رسمية يجب أن تكون ثيابه كاملة ، هذه قواعد ، فماذا بمن يعمل في الحقل الديني ؟ لديه إهمال ، أيضا ًالمظهر اللائق في الحياة الاجتماعية له اعتبار ، فلا يحسن بإنسان عداي أنْ يهمل مظهره ، فكيف بذوي المراتب الدينية ، "ما رأيت محدثاً أحسن وجهاً من مالك ، ما رأيت قط بياضاً ولا حمرةً أحسن من وجه مالك ، ولا أشد بياض ثوب من ثوبه" .
سئل مالك عن الزهد فقال : "طيب الكسب ، وقصر الأمل" ، هذا هو الزهد عند مالك ، الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال : "سألت مالكاً عما يترخص به أهل المدينة من الغناء ، فقال الإمام مالك: إنما يفعله عندنا الفساق" ، هذا رأي الإمام مالك في الغناء ، و قال الإمام مالك : "إن الرجل إذا أخذ يمدح نفسه ذهب بهاؤه" ، و جاء رجل إلى الإمام مالك فقال : "يا أبا عبد الله الرحمن على العرش استوى ، كيف استوى ؟ قال : فما رأيت مالكاً وجد في شيء كوجده من مقالتي ـ انزعج ـ أطرق بعض الوقت ، و جعلوا ينتظرون ما يأمر به فيه ، قالوا : ثم سري عنه فقال : الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، و الإيمان به واجب ، و السؤال عنه بدعة ، و إني أخاف أن تكون ضالاً" ، وهذا رأي أهل السنة والجماعة في عدة آيات قليلةٍ جداً تتعلق بذات الله ، إما أن نوكل تأويلها إلى الله ، وإما أن نؤولها وفق كمال الله ، أما أن نعطلها ، أو نجسدها فقد وقعنا إذًا في الضلالة .
وقال القاضي عياض : "يا أبا عبد الله ، يخاطب الإمام مالك : وجوه يومئذٍ ناضرة إلى ربها ناظرة ، أينظرون إلى الله ؟ قال : نعم ، قالوا : بأعينهم هاتين ؟ قلت : فإن قومًا يقولون إن ناظرةً بمعنى أن منتظرةٌ الثواب ، قال : بل تنظر إلى الله ،
أتراه سأل محالاً ، لكن الله تعالى قال : لن تراني ، أي في الدنيا ، لأنها دار فناء ، فإذا ساروا إلى دار البقاء نظروا بما يبقى إلى ما يبقى ،
فينظرون إلى وجهه الكريم ، قال : سمعت مالكاً يقول : "دخلت على أبي جعفر ، أبي جعفر المنصور ، فرأيت غير واحد من بني هاشم يقبل يده ، يقول الإمام مالك : ورزقني الله - الحمد لله - العافيةَ من ذلك ، فلم أقبل له يداً " .
وكان مالك لا يبلِّغ من الحديث إلا صحيحه ، ولا يحدث إلا عن الثقات ، وما أرى المدينة إلا ستخرب بعد موته ـ يعني من العلم ـ .
وقال محمد بن سعد : "اشتكى مالك أيامًا يسيرة ، فسألت بعض أهلنا عما قال عند الموت ، فقالوا : تشهَّد ، ثم قال : لله الأمر من قبل ومن بعد" ، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة في خلافة هارون الرشيد ، وصلى عليه عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، وهو يومئذٍ والٍ على المدينة ، ودفن بالبقيع ، وكان ابن خمس وثمانين سنة .
قال بعضهم : "كان مالك ثقةً ، مأموناً ، متبتلاً ، ورعاً ، فقيهاً ، عالماً ، حجةً" .
قال أسد بن موسى : رأيت مالك بن أنس بعد موته وعليه ثياب خضر وهو على ناقة تطير بين السماء والأرض فقلت : يا أبا عبد الله أليس قدَّمت ؟! قال : بلا ، قلت : إلامَ صرت ؟ قال : قدمت على ربي ، وكلمني كفاحاً ـ وقال : سلني أعطكَ ، وتمنَّ عليَّ أُرضِك .
إخواننا الكرام ، كل شيء يمضي ، لا يبقى إلا العمل الصالح ، فهنيئاً لمَن عرف الله ، ولمن أطاعه ، ولمن أفنى عمره في طاعته ، ولمن قدم الغالي والرخيص والنفس والنفيس في سبيل الله، واللهُ عز وجل يكافئ على الحسنة أضعافاً مضاعفة .
والحمد لله رب العالمين