الإمام أحمد بن حنبل
لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسيبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام ، أنهينا في الدرس الماضي موضوع الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ، وننتقل اليوم إلى إمام ثالث ، هو الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد ابن محمد بن أحمد بن بلال بن أسد الدهلي الشيباني ، أعني ابن حنبل ، وأشدُّ ما لفت نظري كلمة الإمام الرباني:
[ سورة آل عمران ]
معنى الإنسان الرباني ، أي أنه لا يتحرك إلا بتوجيهات الله ، لا يحب إلا لله ، لا يبغض إلا لله ، لا يعطي إلا لله ، لا يمنع إلا لله ، لا يصل إلا لله لا يقطع إلا لله كل حياته مشغولة بذكر الله بالدعوة إلى الله بخدمة الخلق إلى أن يلقى الله ، والله عز وجل أمرنا أن نكون ربانيين، فهناك إنسان رباني ، وهناك إنسان شهواني ، الشهواني مع مصالحه ، مع نزواته ، مع غرائزه ، مع أهدافه الخسيسة ، أما الرباني ينطلق من توجيهات الله ، نفسه ليست له ، فنيت نفسه في حب الله ، يعطي لله ، يمنع لله ، يسامح لله ، يغضب لله ، يرضى لله ، لا يتكل إلا على الله ، لا يرجو إلا الله ، لا يعلق الأمل إلا بما عند الله لا يخاف إلا الله .
أيها الإخوة ، يجب أن نكون جميعاً ربانيين ، الإمام الرباني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن بلال بن أسد الدهلي الشيباني ، قال حرملة : سمعت الشافعي يقول : "خرجت من بغداد، وما خلفت بها أفقه ، ولا أزهد ، ولا أورع ، ولا أعلم من أحمد بن حنبل" ، هل لفت نظركم في هذه المقولة شيء ؟ الإمام الشافعي يقول :"خرجت من بغداد ، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل" ، شيء في هذه المقولة يلفت النظر ، من جانب آخر يا ترى هل دعاتنا ، ويعرف بعضهم قدر بعض ؟ أم يطعن بعضهم ببعض ، هل هناك إنصاف ، هل عندك الجرأة الأدبية أن تقول : فلان إنسان جيد ، إنسان عالم ، إنسان ورع ، وأنت عالم مثله، أما توجد عداوة ؟! إن لم ننصف بعضنا ، إن لم نعرف قدر بعضنا نسقط جميعاً من عين الله ، الإمام الشافعي يقول "خرجت من بغداد ، وما خلفت بها أفقه ولا أزهد ولا أورع ولا أعلم من أحمد بن حنبل".
وقال المزني : قال لي الشافعي :" رأيت ببغداد شاباً إذا قال حدثنا قال الناس : صدق ، قلت : ومن هو ؟ قال : أحمد بن حنبل" .
إخواننا الكرام ، الدعوة إلى الله دعوتان ؛ دعوة إلى الله خالصة ، ودعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله ، الدعوة إلى الله من خصائصها الاتباع ، وإنكار الذات ، والتعاون ، والاعتراف بالفضل ، والدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله من خصائصها الابتداع ، والتنافس ، وإنكار الفضل ، والطعن في الآخرين ، فقبل أن تدعو إلى الله يجب أن تتأكد ما إن كنت حقيقةً تدعو إلى الله ، أم تدعو إلى ذاتك ، وأنت لا تدري .
قال الزعفراني : قال لي الشافعي - وهذا قول ثالث - : "ما رأيت أعقل من أحمد" .
بالمناسبة الإنسان لا يزيد عن أن يكون عقلاً يدرك ، وقلباً يحب ، والنبي عليه الصلاة والسلام بحكمةٍ بالغة ربط العقل بالقلب فقال : أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً .*
ذات مرة ضربتُ مثلاً : لو وضعنا على طاولة قطعة ماس ثمنها ثمانية ملايين ليرة ، هي بحجم جبة البندق ـ برلنت ـ وكأس كريستال ثمنه ألف ليرة ، وقطرميز ثمنه عشرون ليرة ، وقلنا لك : اختَرْ ، ألا أستطيع أن أكتشف عقلك من اختيارك ؟ أنت استكبرته ، ألا أستطيع أن أكتشف عقلك من اختيارك ؟ إذا كان عقلك أرجح اخترت أصغر قطعة ثمنها ثمانية ملايين ، أكبر شيء القطرميز ، والوسط الكأس ، وأصغر شيء الماس ، فعن أبي قتادة : أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا ، وأحسنكم فيما أمركم به ، ونهى عنه نظرا ، وإن كان أقلكم تطوعا ".
[ ابن المجبر أحاديث الإحياء للحافظ العراقي ]
فإذا رأيت إنسانًا كل همه طاعة الله ، كل همه التقرب إليه ، كل همه موالاة أحبابه ، معاداة أعدائه ، كل عطائه لله ، كل منعه لله ، كل وقته لله ، لا يرضى إلا إذا رضي الله ، هذا الإنسان إذا قلت له ما أعقلك ، ففعلاً ليس هناك من هو أعقل منه .
يروى أن أبا سفيان لما فتح النبي مكة المكرمة قال : يا محمد ما أعقلك ، وما أرحمك ، وما أوصلك ، وما أحكمك ؛ عقل ، رحمة ، حكمة ، صلة ، لذلك لا يمكن أن يسمَّى العاصي عاقلاً ، ولو كان يحمل شهادة بورد ، أبداً ، لا يمكن أن يسمى العاصي عاقلاً ، لكن يسمى ذكياً في اختصاصه ، في الاحتيال ، في كسب المال ، في الإيقاع بين الآخرين ، هو ذكي جداً، ذكاء شيطاني ، أمّا أن يسمى عاقلاً فلا ، إنما الدين هو العقل ، وَمَن لا عقل له لا دين له ، لمجرد أن تعصي الله فأنت مدموغ بالغباء والكفر ، لقول الإمام الغزالي : "يا نفس لو أن طبيباً منعكِ من أكلة تحبينها ، لاشك أنكِ تمتنعين ـ مثل واقعي ، رجل معه ضغط شرياني ، يقول له الطبيب : اترك اللحم ، يقول : حاضر طبيب ـ يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ ـ يقول له الطبيب : اترك الملح ، فلا يذوق الملح شهرين ، بع بيتك ، يعرضه للبيع مباشرة ، وسريعا ـ يا نفس أيكون الطبيب أصدق عندكِ من الله ؟ إذاً ما أكفركِ !! أيكون وعيد الطبيب ـ يقول له الطبيب يصبح معك جلطة انتبه ـ أشد عندك من وعيد الله جهنم ، إذًا الجلطة أشد وأخوف عندك من جهنم ، قال : إذاً ما أجهلكِ.
فكل إنسان يصدق الطبيب ، ولا يصدق الله ما أكفره ، وكل إنسان يرى وعيد الطبيب أشد من وعيد الله ، فما أجهله ، وكل من يعصي الله مدموغ بالجهل والكفر .
وعن الشافعي - وهو قول رابع - قال : "أحمد إمام في ثماني خصال ، إمام في الحديث ، إمام بالفقه ، إمام في القرآن ، إمام في اللغة ، إمام في السنة ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في الفقر "، أما عند الفقر فهناك تعليق جيد : يقول التجار : إذا لم تملك مكتبًا فخمًا ، وسيارة غالية فلا تستطيع أن تعمل ، ولا بد لك من سمعة كبيرة ، وهذه أثرها خاص بالتجارة ، هذه الكلمات تشير إلى مظهر الغني ، مكتب فخم ، ومركبة فخمة ، ومظاهر فخمة ، فترى الناس يشترون ، ويوكلونك وكالات ، ويثقون بك ، أما عند العلماء فبالعكس ، كلما كان العالم أكثر زهداً ارتفع عند الله ، لأنه إذا انغمس في الرفاهية لم يصدقه الناس ، ولو ادعى الورع والزهد .
يا محمد أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال : بل نبياً عبداً ، أجوع يوماً فأذكره ، وأشبع يوماً فأشكره ، فإذا رأيت عالمًا حياته خشنة ، ووسط ، فهذا وسام شرف له ، لأنه الورع حسن ، لكن في العلماء أحسن ، والسخاء حسن ، لكن في الأغنياء أحسن ، والتوبة حسنةٌ ، لكنها في الشباب أحسن ، والحياء حسن ، لكن في النساء أحسن ، والصبر حسن لكن في الفقراء أحسن ، والعدل حسن لكن في الأمراء أحسن .
وعن الشافعي قول خامس : "قال أحمد إمام في ثماني خصال ، إمام في الحديث ، إمام بالفقه ، إمام في القرآن ، إمام في اللغة ، إمام في السنة ، إمام في الزهد ، إمام في الورع ، إمام في الفقر".
ورد عن النبي أنه قال : الفقر فخري ، والزهد حرفتي واليقين قوتي ، والعلم سلاحي والمعرفة رأس مالي ، والرضى غنيمتي ، وذكر الله أنيسي .
وقال إسحاق سمعت يحيى بن آدم يقول : "أحمد بن حنبل إمامنا " .
الإنسان بالتواضع ، وخدمة الخلق ، وإنكار الذات يحبه الناس ، ما أخلص عبد لله إلا جعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة ، قال بعض العلماء : "لو أحمد بن حنبل لم يبذل نفسه لِما بذلها له لذهب الإسلام" ، وهناك أمرٌ خطير وقع في عصر الإمام أحمد بن حنبل ، فقد شاعت بدعة لا أصل لها ، وهي أن القرآن مخلوق ، وقد اعتنق هذه البدعة الخليفة ، وأي عالم لا يقر أمام الناس بهذه البدعة يُقتل ويسجن ، ويعذب ، وأكثر علماء زمانه قالوا : القرآن، والإنجيل ، والتوراة ، والزبور كلها مخلوقة ، كما تريدون ، والقائلُ منهم يقصد أصابعه عندما يَعُدُّ هذه الكتب ، ومَن قال كذلك سلِم من العذاب ، إلا الإمام أحمد بن حنبل ، فقدْ رفض أن يقر بهذه البدعة ، فدخل السجن ، وضرب ، وعذب سنوات عدة ، إلى أن أكرمه الله ، وأظهر الحق على يديه .
قال بعض العلماء : : "لو أحمد بن حنبل لم يبذل نفسه لِما بذلها له لذهب الإسلام" ، لذلك الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى رأى طفلاً صغيرًا أمامه حفرة ، كاد أن يقع فيها فقال له : "إياك يا غلام أن تقع ـ وكان الطفل ذكياً جداً ـ فقال : بل إياك أنت يا إمام أن تقع ، إني إن وقعتُ وقعتُ وحدي ، ولكن إنك إنْ سقطتَ سقطَ العالَمُ معك" ، أحيانًا تكون الأنظار معقودة بعالم يسقط فيسقط الناس معه ، يخيب ظنهم ، أحياناً تُعلِّق الآمال على عالم ، فإذا تكلم بخلاف قناعته سقط ، لذلك قال تعالى :
[ سورة الأحزاب ]
لماذا ضَنَّ الله عز وجل على هؤلاء الدعاة بالصفات الكثيرة ؟ أليسوا صادقين ؟ ألم يذكر أنهم صادقون ، ألا يصلُّون ؟ أمَا ذكر ذلك ؟ ألا يصومون أمَا ذكر ذلك ؟ أليسوا أمناء ؟ أمَا ذكر ذلك ؟
يخشونه فقط ، لأنّ هذه صفة اسمها في البلاغة صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًّا ، فإذا ألغينا الصفة ألغينا الموصوف ، تقول الطائرة كبيرة ، والبيت كبير ، صفة عادية، قل : غالية الثمن ، واليخت أيضاً غالي الثمن ، قل : فخمة ، والباخرة فخمة ، لكن قل: تطير ، فهذه الصفة تنفرد بها الطائرة ، فإذا ألغيناها ألغينا الطائرة ، الطائرة التي وضعت قرب مسجد الشيخ رسلان هل تطير ؟ هذه مطعم ، وليست طائرة ، كانت طائرة قبل هذا ، ما دام أنها لا تطير فإذاً ليست بطائرة ، بل هيكل طائرة ، وربنا عز وجل لما ذكر الذين يبلغون رسالات الله ، ما ذكر من صفاتهم إلا صفة واحدة ، هي أنهم يخشون الله ، ولا يخشون أحداً إلا الله ، فإذا تكلموا بالباطل إرضاءً لمن يخشونه ، وسكتوا عن الحق إرضاءً لمن يخشونه ، فماذا بقي من دعوتهم ؟ انتهت ، ليس لنا علاقة باستقامتهم ، إنه صائم ، ويصلي ، صادق ، أمين ، يهمنا إن سكت عن الحق إرضاءً لمن يخشاه أو نطق بالباطل إرضاءً له انتهى أمره ، فهذه صفة مترابطة مع الموصوف ترابطًا وجوديًّا .
أحمد بن حنبل إمام الدنيا ، هو إنسان مؤمن ، مؤمن كبير ، عالم جليل ، فقيه ، ثم يصل إلى أعلى مرتبة إمام الدنيا ، في الكتب أحيانا يقول لك المؤلِّف : فريد عصره ، ووحيد زمانه، الإمام أحمد بن حنبل وصل إلى أعلى درجة ، ورغم ذلك جاءه وفد من المغرب معه ثلاثون سؤالاً ، طرحوها عليه فأجاب عن سبعة عشر سؤالاً ، والباقي قال لهم : لا أدري ، فقالوا : هل من المعقول أنّ الإمام أحمد لا يدري ؟ قال لهم : قولوا لمن أرسلكم : إنّ الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم ، العلم هكذا ، كلمة (لا أعلم) وسام شرف ، هل تصدقون أن الذي يعلم كل شيء لا يعلم شيئاً ، يجب أن تكون دقيقًا في كلامك ، سألوك سؤالاً دقيقًا في الفقه اتركه للغد ، راجعه ، لا تتسرع ، وإنْ تعطِ جوابًا سريعًا تصغر ، ابقَ علميًّا ، كلمة (لا أعلم) أفضل مليون مرة من أن تعطي فتوى غير صحيحة ، لأنه تعلق الناس بك ليس شيئًا قليلا ، وأنا عندي سواء أن يحرِّم شخص حلالاً ، أو أن يحلل حراماً ، فهما سيان ، وهذا شيء يمكن أن يكون .
مرة أخ كان يعاني من الفقر حدًّا لا يوصف ، وهو يعمل في مهنة يدوية تزينية ، فجاءه شخصٌ وعرض عليه أنْ يصنع أغلفة مصاحف لكنه رفض ، لأن المتقدِّمَ غير مسلم ، فما رضي أن يعامله ، فمن قال لك ؟ الصفقة جائزة ، وهذا جهل ، لكنه حرم نفسه رزقًا كبيرًا لجهله ، فالنبي تعامل مع أهل الكتاب ، فمِن الجهل ، أنْ تحرِّم الحلال ، وتحلَّ الحرام .
بالمناسبة أي إنسان يقول لك : هذا حرام فشيءٌ سهلٌ ، أما أن يقول لك : حلال ، فلا بد أن يعطيك الرخصة ، والدليل ، فقبل أن تقول : حلال أو حرام عُدَّ إلى المليون ، وارجع إلى المراجع ، أو اسأل ، وهذه نقطة مهمة جداً ، قال علي بن المديني : "ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ـ وفي قول : إنه حفظ ألف ألف حديث ، أيْ مليون ـ وبلغني مع ذلك أنه كان لا يحدث إلا من كتاب" ، هذا الذي أمامك أمانة في عنقك ، سمعت عن خطيب أنه قادر على أنْ يلقي خطبة ، ولو كان يستلقي على الفراش ، ويتكلم لشدة ثقافته وتمكنه ، يمكن أن يلقي خطبة لا يستطيعها إنسان بعد تحضير شهر ، ومع ذلك لا يلقي على الناس خطبةً إلا من ورقة ، فقالوا له : لماذا يا سيدي ؟ قال : لأن هذه الخطبة أمانة سوف أحاسب عنها كلمةً كلمة ، وحرفاً حرفاً .
مرة سألوا أحد رؤساء الجمهوريات في أمريكا : كم تعِدُّ لخطاب يلقى في عشر دقائق ؟ قال: عشر ساعات ، كم تعِدُّ لخطاب يلقى في ساعة ، قال : ساعة ، كم تعد لخطاب يلقى في ثلاث ساعات ، قال : لا أعدُّ له إطلاقاً ، عند ذلك أقول كلَّ ما يخطر على بالي .
مَن جمع لك الناس ؟ الله عز وجل ، إنّهم لم يأتوا رغبةً في شخصك ، بل جاؤوا ينفذون أمرًا إلهيًّا ، فما دام الله عز وجل هو الداعي فكيف يكون أن إعدادك للخطبة ؟ لا بد من إتقانها الإتقان كله .
قال علي بن المديني : "ليس في أصحابنا أحفظ من أبي عبد الله أحمد بن حنبل ، وبلغني مع ذلك أنه كان لا يحدث إلا من كتاب" ، ولنا به أسوةٌ حسنة ، إن هذا العلم دين ، حديث حديث ، آية آية، تفسير دقيق ، ضبط للنصوص ، شرح أصولي ، لأن هذا أمانة ، والمسلم سلَّمك قياده، وقال لك علمني ، " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ".
[ السيوطي ، ضعيف ]
ابن عمر دينك دينك ، إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ، استقامت عقيدتهم ، واستقامت نصوصهم ، واستقامت أخلاقهم ، خذ عن الذين استقاموا ، ولا تأخذ عن الذين مالوا.
قال علي بن المديني : "أمرني سيدي أحمد بن حنبل ألاَّ أحدث إلا من كتاب" ، مرة سيدنا عمر قال : "كنت قد أعددت كلاماً قاله عني أبو بكر" ، قال خطيب يومًا : أصعد إلى المنبر وليس في ذهني ما أقوله ، وأتركه على التيسير .
مرة قال لي شخص حضر خطبة : فتح ثمانية وعشرين موضوعًا ، ولم يغلق واحدًا ، خطر له خاطر قاله ، وهذا خطأ فادح ، حدثنا رجل توفي رحمه الله ، له أب من رواد مسجد ، يلاحظ شخصًا في أثناء الخطبة يجلس على الباب الخارجي للمسجد ، يتسلى مع المارة ، والخطيب على المنبر ، هل هذا معقول والخطيب على المنبر؟! خطيب يلقي خطبة ، وأنت جالس تتسلى مع المارة ، فجاء ، وقال له : يا رجل ، أنت مسلم ، وحرام عليك ما تفعله ، والخطبة مستمرة ، والخطيب على المنبر ، قال له : أنت مِن كم سنة لك في الجامع ؟ قال له : ست سنوات ، قال له : أنا منذ ثمانية وعشرين عامًا ، فاذهبْ ، وأحْضِرْ لي كلمة من كلام الخطيب حتى أكمل لك الخطبة كلها ، فمنذ ثمانية وعشرين عامًا لا يوجد في الخطبة تجديد ولا جديد .
إذا كان الله عز وجل هو الذي دعا الناس إلى المسجد ، فينبغي أن تعد كلامك ، وإعداد الكلام احترام للحاضرين ، واحترام لوقتهم ، واحترام لمجيئهم ، ولأشخاصهم ، لأنهم اختاروك على غيرك ، قال سيدنا عمر : "كنت قد أعددت كلاماً قاله عني أبو بكر" .
قال أحد العلماء : "أحمد بن حنبل حجة الله على خلقه" ، كيف ؟ يعني لو فرضنا أن الفساد عمَّ ، والناس كلهم مدُّوا أيديَهم إلى الحرام ، وأحد الناس يعاني من أشد أنواع الفقر ، وما مد يده ، فهذا حجةٌ على مَن حوله ، أحيانا يعمُّ الفساد ، ويقول لك رجل : أنا أعمل بقدر الراتب ، لو وجدت إنسانًا مِن ذوي الراتب المحدود يعمل بإخلاص فهذا الإنسان حجةٌ على مَن حوله .
كل الناس يطلقون أبصارهم في الحرام ، وشاب في مقتبل العمر يغض بصره غضاً حازماً نقول هذا الشاب حجةٌ على الشباب ، والله عز وجل في كل زمان له أولياء هم حجةٌ على من عاصرهم ، معظم الناس انحرفوا ، وفلان لماذا لم ينحرف ؟ في الزراعة قاعدة لطيفة ، أنت بعت بذورًا لخمسين فلاحًا ، وجاءك ثلاثة منهم يقولون : ما نبت البذر ، لكنَّ واحدًا نبت عنده البذر نباتًا جيدًا ، فهذا الواحد حجة على مائة ، ويكون الخطأ منهم ، لأنه لو كان الخطأ من البذر لما نبتتْ بذرة واحدةٌ ، فالخطأ بالمزارع ، لأنّ مزارعًا آخر نبت عنده البذر نباتًا جيدًا ، فمعنى هذا أن هذا المزارع حجة على بقية المزارعين ، لذلك الأنبياء حجةٌ على الخلق ، فمن هو النبي ؟ النبي بشر ، ولولا أنه تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر ، يحب كما نحب ويشتهي كما نشتهي ، ويغضب كما نغضب ، ويخاف كما نخاف ، ويرجو كما نرجو، ويجوع كما نجوع .
قال عليه الصلاة والسلام : " أوذيت بالله وما أوذي أحد مثلي ، وخفت بالله وما خاف أحد مثلي ، ومضى علي ثلاثون ما بين يوم وليلة لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال "*
هذا سيدنا موسى خرج من مصر خائفًا ، فالنبي يشبع ، ويجوع ، ويرتوي ، و يظمأ ، ويطمئن ، لولا أن النبي عليه الصلاة و السلام تجري عليه كل خصائص البشر لما كان سيد البشر .
قال أبو الحسن الميموني ، قال لي علي بن المديني بالبصرة قبل أن يمتحن ، و بعدما امتحن أحمد بن حنبل ، وضرب ، وحبس ، وأُخرج : يا ميموني ما قام أحد في الإسلام ما قام به أحمد بن حنبل ، فتعجبت من هذا عجباً شديداً ، و أبو بكر الصديق رضي الله عنه و قد قام في الردة، و أمر الإسلام ما قام به ، قال الميموني : فأتيت أبا عبيد القاسم بن سلام فتعجبت إليه من قول علي، قال : فقال لي أبو عبيد مجيباً : بأي شيء يا أبا عبيد ذكرت له أمر أبي بكر ؟ قال : إن أبا بكر وجد أنصاراً ، وأعواناً ، و أن أحمد بن حنبل لم يجد ناصراً واحداً " ، عندما امتحن ، ودعي إلى أن يقر أنَّ القرآن مخلوق لم يجد ناصراً واحداً ، ضحى بحياته ، و قال : أنا لا أقبل ، هذه عقيدتي ، ودخل السجن ، وعُذب ، وضُرب بالسياط ، ولم يكن له ناصر ، من هنا قال عليه الصلاة والسلام :" اشتقت لأحبابي ، قالوا : أو لسنا أحبابك ؟ قال : لا أنتم أصحابي أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ، أجره كأجر سبعين ، قالوا : منا أم منهم ؟ قال : بل منكم ، قالوا : و لمَ ؟ قال : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون " .
إذا أحَبَّ الشاب في زماننا أن يستقيم فأولُ مَن يعارضه أهلُه ، المسلمون الذين يصلون في المساجد منهم مَن يريد اختلاطًا ، غناء ، أجهزة لهو ، هكذا ، أول من يعارض الشاب الذي أراد أن يصطلح مع الله أهله : لأنكم تجدون على الخير معواناً و لا يجدون ، فإذا كان سيدنا أحمد بن حنبل له موقف رائع ، وهو أنه حينما نطق بكلمة الحق ، و لم يعبأ بأحَدٍ ، ولم تأخذه في الله لومة لائم ، لم يجد و لا ناصراً واحداً ، لكن الله كان معه ثم نصره ، قال أبو جعفر : كان أحمد بن حنبل من أعلام الدين ، وقال بعضهم : "ما رأيت أحداً أجمع لكل خير من أحمد بن حنبل" ، أنا أردت من هذه الدروس الخمسة أو الستة أن تقول : إنْ قلت : فلان حنبلي ، فلان شافعي ، فلان حنفي ، فلان مالكي ، أنْ تدرك أنّ هؤلاء أعلام كبار ، هؤلاء جمعوا بين العلم والعمل ، جمعوا بين العلم و العبادة ، بين العلم و الطهر ، بين العلم و الإخلاص ، هؤلاء قدوة لنا ، وهم علماء كبار ، وخلاصة الأُمّة ، والإمام الحسن البصري ، وأنتم جميعا تعرفون قصته، لما أدى واجب العلم ، وتحدث في عهد الحجاج بكلام أغضب الحجاج ، والحجاج وما أدراكَ به ، قال لمن استمع لكلامه : يا جبناء ، والله لأسقينَّكم من دمه ، أول شيء طلب السياف ليقطع رأسه ثم قال : ائتوني به ، دخل الإمام الحسن البصري رأى الحجاج غاضباً ، والسياف جاهز و النطع ـ رداء يوضع فوق الأثاث الثمين لئلا يصاب بالدم عند قطع الرأس ـ تمتم الحسن البصري بكلمات ما فهمها أحد ، ثم وقف الحجاج ، واستقبله ، وقال له : أهلاً بأبي سعيد ، وأدناه من مجلسه ، ثم أجلسه على سريره ، ومازال يدنيه منه ، ويثني عليه حتى قال له : يا أبا سعيد أنت سيد العلماء ، ثم عطره ، واستفتاه ، وأكرمه ، وضيفه ، وشيعه ، نظر السياف ، لماذا أحضرتموني إذًا ؟ فلحقه الحاجب ، وقال له : يا أبا سعيد لقد جيء بك لغير ما فعل فيك ، فماذا قلت لربك ؟ قال له : قلت : يا ملاذي عند كربتي ، يا مؤنسي في وحشتي ، اجعل نقمته علي برداً و سلاماً كما جعلت النار برداً و سلاماً على إبراهيم ، فاستجاب الله له ، وألقى في قلب الحجاج هيبته وتعظيمه .
إخواننا الكرام ، مَن هاب الله هابه كل شيء ، جرِّبْ ، لا تخش إلا الله ، وسيسبغ الله عز وجل عليك الهيبة و الجلال .
يروون قصة سمعتها من رجل لا يزال حيًّا يرزق ، هذا الرجل يكون والده التلميذ الأول للشيخ بدر الدين الحسني ، الذي أرسل إليه السلطان عبد الحميد الصدر الأعظم ـ الدولة العثمانية كانت تبسط سلطانها على الدول العربية كلها ، شرقاً و غرباً ، شمالاً و جنوباً ، مدة أربعمائة عام ـ وهي دولة تحكم دول شمالَ إفريقيا بأكملها ، والشرق الأوسط بأكمله ، و العراق و إيران و الحجاز ، فما قيمة صدرها الأعظم ـ رئيس وزارتها ـ شخصية كبيرة جداً، فلهيبة الشيخ بدر الدين عند السلطان أرسل له الصدر الأعظم يدعوه لحضور احتفال في استنبول ، ركب البارجة ، وتوجه نحو بيروت ، ثم ركب مركبة إلى دمشق ، و دخل على الشيخ ينقل له دعوة السلطان لحضور الاحتفال في استنبول ، قال له : يا با أنا لا أحب هذه الزيارات ، من شدة هيبته كان إذا رفض شيئاً لا يجرؤ أحد أن يعيد عليه الطلب ، وكذا الحال إنْ قلت : ليس لديّ رغبة ، وأنا مشغول ، ومع ذلك يسحبونك بسيف الحياء ، شئتَ أم أبيت ، قال الشيخ : ليس عندنا وقت ، فأجاب : هذا لا يصير ، يا أستاذ نريدك ، كان لشدة هيبته لا يستطيع أحد أن يعيد عليه الطلب ثانية ، قال له : أنا يا با لا أرغب في الحضور ، سلم عليه ، واعتذر منه ، رجع هذا راكبًا بارجة ، ووصل إلى الإسكندرون ، ثم تذكّر أنّ الصدر الأعظم ، يأتي إلى الشام ، ويدعو عالماً ، ثم يذهب معه ، فكَبُرَت عليه أن يرجع خائبًاً ، فقرر أنْ يرجع، ويأخذه بالقوة ، فرجع خمسة أيام أخرى بالبحر ، وصل للشام دخل عليه ، وكان يصلي، فسلم ، وقال له : يا با أنت رجعت ، فارتبك ، وقال له : نسيت أن أقبل يدك سيدي ، فرجعتُ لأقبِّلها ، فدَقِّق النظر رعاك الله .
على قدر الطاعة ، على قدر الاستقامة ، على قدر الإخلاص يلبسك الله ثوبَ التقوى والهيبة، وأحياناً تجد رجلاً ليس له قدر أبداً ، لكثرة معاصيه ، وتقصيره ، فمن اتقى الله هابه كل شيء .
الظاهر بيبرس ، هذا القائد الذي ردّ المغول ، من أكبر القواد ، ردّ أكبر هجمة تترية على المسلمين ، وبلادهم ، قال : "واللهِ ما استقر ملكي حتى مات العز بن عبد السلام ، لشدة هيبته" .
قلت لبشر بن الحارث : ألا صنعت كما صنع أحمد بن حنبل ، عندما وقف موقفاً حازماً من موضوع خلق القرآن ، فقال : تريد مني مرتبة النبيين ؟ لا يقوى بدني على هذا ، حفظ الله أحمد بن حنبل بين يديه ، ومن خلفه ، ومن فوقه ، ومن أسفل منه ، وعن يمينه ، وعن شماله، فالله قد حفظه ، إذا كان الله معك فمن عليك ؟ و إذا كان عليك فمن معك ؟ قال بعضهم : سمعت بشر بن الحارث يقول : سئل عن أحمد بن حنبل بعد المحنة فقال : أأنا أسأل عن أحمد بن حنبل ؟ أُدْخِلَ الكير ـ أي السجن ـ فخرج ذهباً أحمر ، أي خرج ذهباً ، ولماذا الماس غالٍ ؟ هناك قطعة ماسٍ بثمانية ملايين ، حجمها قدر حبة البندق لماذا ؟ لأن الماس أساسه فحم ، ولكنه تحمل ضغطاً بشكل غير معقول ، ضغطٌ و حرارة حوَّلت الفحم ماسًا ، فكل واحد منا إذا تحمل ضغطاً وحرارة يصبح ماساً ، لا تصبح ماساً إلا تحت الضغوط الشديدة ، والاستقامة ، والتحمل ، فأنت معد لجنة عرضها السماوات و الأرض ، هذه لا تأتي بركعتين بلا وضوء ، ولا بليرتين تعطيهما فقيرًا ، لا بد من انضباطٍ كاملٍ ، يصحبه صبرٌ ،
مستحيل لا بد مِن فتنة ، قال : أُدخِل الإمام أحمد الكير ، فخرج منه ذهباً أحمر ،
بعض الأئمة قال : "بستاني في صدري ، ماذا يستطيع أن يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، و إن حبسوني فحبسي خلوة ، و إن قتلوني فقتلي شهادة ، فماذا يفعل أعدائي بي؟".
لذلك قال بعضهم : "في الدنيا جنة مَن لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة" ، أية جنة في الدنيا ؟ جنة القرب ، أنت استقمْ على أمره ، وأطِعْه ، وأخلص له ، ثم انظر كيف يقربك ؟ و كيف يسعدك؟ و كيف يدافع عنك ؟ و كيف يلقي عليك ثوب الهيبة ؟ قال له : نسيت أن أقبل يدك سيدي ، قال بعضهم : ما رأت عيناي روحاً في جسد أفضل من أحمد بن حنبل ، أي هل هؤلاء الأئمة الكبار من غير جبلة أمْ من جبلتنا ؟ و الله من جبلتنا ، ربهم ربنا ، إلههم إلهنا ، قرآنهم قرآننا، دنياهم دنيانا ، البطولة مجالها مفتوح لكل مؤمن ، تفضل و صلِّ قيام الليل ، تعلَّم القرآن ، علِّم القرآن ، اخدم الناس ، قال تعالى في الحديث القدسي : "ومَن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين" .
قال بعضهم : "إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلموا أنه صاحب سنة" ، فعَن سَلْمَانَ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا سَلْمَانُ لا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ ، قَالَ : قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ أُبْغِضُكَ وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ ؟ قَالَ تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي " .
هذا كلام غير معقول ، أنْ يبغض رسول الله ، مثلاً قال : حب الأنصار مِن الإيمان ، وبغضهم من النفاق ، نقطة دقيقة ، إنسان مؤمن ، مخلص ، مُتَفَانٍ في محبٌّ لله ، متفان في طاعته ، إن كنت تكرهه فهذه علامة نفاق ، و إن كنت تحبه فهذه علامة إيمان ، قال : "إذا رأيتم الرجل يحب أحمد بن حنبل فاعلموا أنه صاحب سنة" ، مطبق للسنة ، "وإذا رأيت الرجل يقع في أحمد بن حنبل فاعلم أنه مبتدع" ، إذا وُجِد إنسان يكرهه فاعلم أنه مبتدع ، نحن الآن عندنا سنة نبوية مطهرة ، فلو أنّ إنسانًا أعطاك توجيهًا خلاف السنة ، و أنت قبلت هذا التوجيه ، ورفضت السنة ، فهل عندك إيمان ؟ لا ، والله لا إيمان لك ، هل يعلو عندك إنسان على رسول الله ؟.
قال لي أخ كان في مؤتمر مفتي دولة بأوربا الشرقية ، يضع خاتمَ ذهبٍ كبيرًا قال : جلس قريبًا مني ، قال له : يا أستاذ ، يا إمام - مفتي بلد أوربي بمؤتمر إسلامي - قال له : الذهب حرام على الرجال ، وذكر له حديثًا لرسول الله ، فقال له : هناك قول للإمام أبي حنيفة بالجواز ، قال له : هل هذا معقول ؟ قال له : عجيب أمرك ، أنا أقول لك : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنت تقول : قال الإمام أبو حنيفة ، إذاً لا يعرف الفرق بين الرجلين .
يقول الإمام الشافعي : "الحديث مذهبي ، فإذا جاء الحديث خلاف كلامي فاضربوا بكلامي عُرض الطريق" ، الحديث قاعدة ، أنا أؤكد على هذا ، لو تلقيت توجيهاً من أكبر إنسان في الأرض ، افرضه من شيخك ، ووجدت حديثاً صحيحاً خلاف كلام شيخك ، فماذا تعمل ؟ يجب أن تلقي بكلام شيخك عُرض الطريق ، وأن تأخذ بحديث رسول الله ، هذا هو الإيمان ، قد يكون مخطئًا ، فهو ليس معصوماً ، والأصل في التشريع قولُ النبي عليه الصلاة والسلام ، فكل واحد منكم يتلقى توجيهاً يخالف توجيهات النبي ، ثم ينفذِّها ، ولا يعبأ بتوجيهات النبي فكأن الإيمان قد خُلِع من قلبه ، النبي معصوم بأقواله ، وأفعاله ، وإقراره ، وأحواله ، لا ينطق عن الهوى .
كلامه العادي غير القرآن ، إن هو إلا وحي يوحى ، وقال بعضهم : ما أعلم في أصحابنا أفقهَ منه ، وما رأيت أكمل منه ، اجتمع فيه فقه ، و زهد ، وأشياء كثيرة ، وما رأيت مثله في فنون العلم ، والفقه ، والزهد ، والمعرفة ، وكل خير ، و هو أحفظ مني ، وما رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ منه ، الإنسان لماذا يحسد ؟ إذا قلت لي الحسد جبلة بالإنسان ، أنا لي اعتراض ، من خلق هذه الجبلة ؟ هل مِن أحَدٍ غير الله ؟ لماذا خلق هذه الجبلة في الإنسان ؟ وهل الله عز وجل يخلق في الإنسان صفة سيئة ، ويحاسبه عليها ؟ مَنْ عنده جواب على هذا السؤال ،
أصل الحسد حيادي ، لمَ خلقه الله في الإنسان ، خلَقَهُ مِن أجل أنْ يغار من أخيه ، من أجل أن يتنافس معه في الخير ، نحن نقرأ عن أحمد بن حنبل ، ألا يجب أن نغار ، ونكون مستقيمين ، ورعين ، نتعلم ، نعلم ، نقف موقفًا جريئًا لا نتخاذل ، والحقيقة أنّ الحسد انحرافٌ للغيرة المشروعة ، كيف أنه يوجد زواج وزِنا ، ربنا سبحانه هو الذي صمم الأنثى ، فلماذا صممها ؟ لتكون زوجة ، هل صممها لتكون عاهرة ؟ لا ، هذا انحراف ، وهي حيادية ، فقدْ أعطاها صفاتها لتكون زوجةً .
وحينما خلَقَ ربنا في الإنسان روحَ التنافس ، أو تسميه تنافسًا ، تسميه غيرة ، تسميه حسدًا، تسميه غبطة ، هلْ أتألّم إنْ سمعتُ عن رجل فاقني ؟ لا ، بل يجب أن أكون مثله ، أصل هذه الجبلة مشروع ، وجيد جداً ، إما أنْ تنحرفَ هذه الجبلة عند أهل الدنيا فتكون حسداً ، وإما أنْ تستقيم عند أهل الدين فتكون غبطة ، فالعلماء قالوا : المؤمن يتمنى أن يكون كمن تفوق عليه في أعمال الآخرة ، إنسان حفظ كتاب الله ، إنسان طلب العلم ، علم العلم ، الله رفع شأنه ، أنتَ تألمتَ لأنك دونه ، فحثثتَ الخطى كي تكون مثله ، هناك قصة تعرفونها ، عن رجل من الصعيد جاء ابنه عالمًا ، فغار منه ، فركب جحشته إلى القاهرة ، وقصدَ الأزعر ، فسأل : أين الأزعر ؟ أي أزعر هذا ؟ أزهر يا بني ، وليس أذعر ، عمره خمسة وخمسون عاماً ، طلب العلم ، وتعلم القراءة ، والكتابة ، وحفظ كتاب الله ، وتعلم ، وعاش ستًّا وتسعين سنة ، وما مات إلا وهو شيخ الأزهر ، يجب أن تغار ، أن تغار لأن فلاناً عنده فيلا ، وأنا ليس عندي مثلها ، فلان عنده سيارة ماركة ستمائة ، وأنا عندي دونها بكثير ، فهذه الحياة إذًا تعاش ، لا تغار من هذا ، لتكنْ غيرتك من نوع ثان ، لتكن في طلبِ الآخرة ، يجب أن تغار في شؤون الآخرة ، قال : أحصينا استشهادات أحمد في العلوم فوجدناه يحفظ سبعمائة ألف حديث ، أحد العلماء جمعوا كتبه ، وقسموا صفحات كتبه على حياته ، فكان يكتب كل يوم تسعين صفحة ، منذ أن ولد حتى مات ، أنت كم صفحة تقرأ في اليوم ؟ فقط تقرأ ، لا تكتب ، و تؤلف ، قراءة فقط ، يجب أن نغار جميعًا ،
وإن قلت : أنا عندي عمل شاق ، نقول لك : نظِّمْ وقتك ، إن لله عملاً في الليل لا يقبله في النهار ، نظم وقتك ، لابد من أن تقتطع من وقتك الثمين وقتاً لمعرفة الله ، وقتاً لمعرفة منهجه، وقتاً لطلب العلم وقتاً لتربية أولادك ، وقتاً كي ترقى به عند الله ، هناك نقطة أحب أن أعلق عليها تهمنا جميعاً ، لو تخيلنا رجلاً سافر إلى بلد أجنبي ليأخذ دكتوراه ، وهو فقير ، فلو أخذ دكتوراه في اختصاص نادر جداً ، يرجع ليشغل أعلى منصب في بلده ، ويتقاضى أعلى دخل ، هذا مثل افتراضي ، نحن نركز على المثل ، إذًا يرجع رأساً ليسكن أفخر بيت بالشام ، و له في المصيف بيت ، ويركب آنقَ سيارة ، و لكن أخذ الدكتوراه نادرة جداً ، وهو فقير ، فهناك يجب أن يعمل في بلاد الغرب ، ويدرس ، وجد عملاً مثلاً بألف فرنك لمدة ساعتين فهذا دخلٌ يكفيه ، وجد عملاً لأربع ساعات ، ولكن الأجر بأربعة آلاف فرنك ، واللهِ هذا أفضل ، وجد عمل لست ساعات بستة آلاف فرنك ، وجد عملاً ثماني ساعات ، وهو يفرح بهذا الدخل الاستثنائي ، ولكن على حساب الدكتوراه ، والعلم ، ثم لو وجد عملاً كحارس لأربع وعشرين ساعة بعشرين ألف فرنك فهل يكون رابحًا بها ؟ دققوا في المثل ، أي إذا كان عملك قد امتص كل وقتك ، وأعطاك مليونًا فأنت أكبر خاسر ، عندئذ ألغيتَ وجودك ، وألغيت هويتك ، كيف تعرف الله ؟ كيف تعبده ؟ كيف تدعو إليه ؟ فالدخل إذا كبر جداً على حساب الآخرة أصبح أكبر خسارة ، لابد من وقت فراغ ، يجب أن تنفقه في طاعة الله ، قال : قدم صديق لنا من خراسان ، فقال : إني اتخذت بضاعة ، ونويت أن أجعل ربحها لأحمد بن حنبل ، فكان ربحها عشرة آلاف درهم ، أردت حملها إليه ، ثم قلت : حتى أذهب إليه ، فأنظر كيف الأمر عنده ، ذهبت إليه فسلمت عليه ، فقلت : فلان ، فعرفه ، فقلت : إنه ابتاع بضاعة ، وجعل ربحها لك، وهو عشرة آلاف درهم ، فقال : جزاه الله عني خيراً ، نحن في غنى ، وسعة ، وأبى أن يأخذها ، عفة ، لقد كان إماماً في الفقه والتعفف والتجمل ، وبهذا يرقى الإنسان ، أبى أن يأخذها .
قال : حُمل إلى الحسن ميراثه من مصر مائة ألف دينار ، فحمل إلى أحمد بن حنبل ثلاثة أكياس ، كل كيس ألف دينار ، فقال يا أبا عبد الله هذا من ميراث حلال فخذها فاستعن بها على علتك ، قال : لا حاجة لي بها أنا في كفاية فردَّها ، ولم يقبل منها شيئاً ، وهذا بعض ورعه ، رحم الله أحمد بن حنبل ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
والحمد لله رب العالمين