الإمام أحمد بن حنبل
لفضيلة الأستاذ محمد راتب النابلسيبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا وزدنا علماً و أرنا الحق حقاً و ارزقا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . أيها الإخوة الكرام ، لازلنا مع الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، إلا أن أحد الإخوة الكرام سألني : ما الحكمة من هذه الدروس التي تتعلق بالأئمة الأربعة ، الذين يكثر الحديث عنهم في كل مجلس علم ، وفي كل درس فقه ، وفي كل جامعة وفي كل كلية ؟
أيها الإخوة ، أضرب لكم المثل التالي : إنسان عنده آلة صنعت عام ألف وتسعمائة وثلاثين ، متواضعة جداً ، يعمل بها ، صاحب هذه الآلة إن لم يزر معملاً أرقى من المعمل الذي صنعت به ، يظن أن هذه الآلة أرقى آلة في العالم ، وعندئذٍ لا يطوِّرها ، أما حينما يطلع على معامل أحدث ، وأكبر ، وأسرع ، وأدق وأكثر فائدةً ، تصغر آلته في نظره ، وهو الآن يصغر معها إن بقي على ما هو عليه .
الإنسان إذا انفتح على الآخرين ، واطلع على ما عندهم ، قرأ عن العلماء السابقين ، المحققين العاملين ، المخلصين ، المتبحرين يصغر إلا أنه الآن يصغر من أجل أن يكبر ، أما لو عزل نفسه عن دراسة أحوال العلماء والفقهاء ، والدعاة ، والذين رفعوا راية هذا الدين ، إذا عزل نفسه عن هؤلاء العظام يكبر في نفسه ، ويظن أنه أكبر الناس ، وهو في الحقيقة أصغرهم ، فبين أن تصغر لتكبر ، وبين أن تتوهم أنك كبير ، ولست في الحقيقة كبيراً ، لما يطلع الإنسان يتحجم ، ولما يتحجم يرسم هدفًا كبير لنفسه يسعى إليه .
أحيانا الإنسان يقتدي بهؤلاء العلماء بجرأتهم ، بإخلاصهم ، بورعهم ، بتواضعهم ، بتعففهم ، بتقشفهم ، بزهدهم ، بصدق توكلهم ، بحرصهم على رضاء الله عز وجل ، يقتدي بهم ، والإنسان أحياناً يستفيد من خبرات الآخرين ، من هو العاقل ؟ هو الذي لا يجعل من نفسه ضحيةً لمعلوماته ، قد تتعلم فكرةً أو حقيقةً على حساب نفسك فأنت الضحية ، إذًا تعلمت بعد أن ضحيت ، أما العاقل يستفيد من خبرات الآخرين لهذا قالوا : السعيد من اتعظ بغيره والشقي لا يتعظ إلا بنفسه .
إذاً نحن مع الانفتاح لا مع الانغلاق ، مع الإطلاع لا على التقوقع مع التعاون لا مع التنافس ، مع أن تكون جندياً في جيش ، لا أن تتوهم أنك قائد جيش ، ولا يوجد جيش إطلاقاً .
أيها الإخوة ، مازلنا مع الإمام أحمد بن حنبل ، عن سليمان بن حرب أنه قال لرجل : سل أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا ، فإنه عندنا إمام ، فأحمد بن حنبل ما الذي اكتسبه ؟ اكتسب ثقة الناس ، وصدقوني أن أثمن شيء تمتلكه ثقة الناس ، لأنهم إذا وثقوا فيك أمكنك أن توجههم ، وأمكنك أن تعلمهم ، وأمكنك أن ترعاهم ، ومكّنوك من أن ترعاهم ، ومكّنونك من أن توجههم ، ومكّنوك من أن تكون قدوةً لهم ، إذا وثقوا فيك ، فلذلك أعيد وأكرر ألف تصرف ذكي وحكيم ودقيق يشد الناس إليك ، لكن تصرفًا واحدًا أحمق ينفرهم منك ، ولعل في الآية الكريمة خير مؤيد لهذه الفكرة ،
بسبب الرحمة التي استقرت في قلبك يا محمد كنت ليناً لهم ، بهذا اللين اجتمعوا نحوك ، انضموا إليك ، وثقوا بك ، جعلوك قدوةً لهم ، جعلوك أسوةً لهم ، ولو كنت فظاً غليظ القلب ، لو لم تستقر الرحمة في قلبك لكان مكان الرحمة القسوة إذاً لانفضوا من حولك ، فاعفُ عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم في الأمر .
سئل أحمد بن حنبل ما يقول في مسألة كذا فإنه عندنا إمام ، والناس ليسوا أغبياء ، من ظن أن الناس أغبياء فهو وحده الغبي ، الناس يعرفون الحق من الباطل ، يعرفون المخلص من غير المخلص يعرفون الصادق من الكذاب ، يعرفون المنتفع من عمل ما من غير المنتفع ، ويعرفونه بحدسهم ، في بعض الدول الأجنبية نظام المحلفين ، نأخذ من الطريق خمسين رجلاً لا على التعيين من حِرَفٍ متنوعة ، ومن ثقافات متنوعة ، نعرض عليهم قضية قضائية معقدة ، نقول ولهم : ما رأيكم ، رأيهم رأي الفطرة ، رأيهم رأي بسيط ، لكنه صادق ، القاضي أحياناً يعرض القضية على خمسين محلفاً ، وهؤلاء يدلون بآرائهم ، وفي الأعم الأغلب تأتي آراؤهم صحيحة ، لأنهم ليسوا مع هؤلاء ، وليسوا مع هؤلاء ، لا يتعرضون إلى ضغوط شديدة فتغيِّرَ مجرى أحكامهم .
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سمعت أبي يقول : قدمت صنعاء ، أنا ويحيى بن معين ، فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته ، وتخلف يحيى ، فلما ذهبت أقرع الباب قال لي جارٌ له بقّالٌ : لا تدقَّ الباب ، فإن الشيخ يهاب ، عندما الإمام النووي من نوى ، أبو سليمان الداراني من داريا ، يوجد علماء اشتهرت القرية التي ولدوا فيها ، النيسابوري من نيسابور ، أكثر العلماء الكبار كانوا من قرى ، ولكن هذه القرى أصبحت علماً في تاريخ العلم .
الإمام أحمد بن حنبل توجه إلى صنعاء ، مضى إلى عبد الرزاق في قريته ، فلما هم يدق الباب قال له بقال جارُه : لا تدق الباب ، فإن الشيخ يهاب ، قال : فجلست ، حتى إذا كان قبل المغرب خرج فوثبت وقبَّلتُ يديه ، وفي يدي أحاديث انتقيتها ، فسلمت عليه ، وقلت : حدثني بهذه يرحمك الله ، فإنني رجل غريب ، قال: ومن أنت ؟ قال : أنا أحمد بن حنبل فتقاصر ، وضمَّني إليه ، وقال : بالله أنت أبو عبد الله ؟! ثم أخذ الأحاديث ، وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل ، فقال للبقال : هلم المصباح ، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب ، فالمقصود : أين وصل صيته ؟ إلى صنعاء ، حيث استقبله هذا العالم الجليل ، وتقاصر أمامه .
فكن كما يرضي الله عز وجل ، واترك الأمر لله ، فإنّ الله عز وجل هو الذي يرفعك ، فلا ترفع نفسك ، إن رفعتها خفضك الناس ، أمّا إن تواضعت لله رفعك الله عز وجل ،
ترى علماء كبارًا هذا أصله قصاب ، وهذا نجار ، هذا دولاتي ، نسمع بعالم كان يعمل (دولاتيًا) ، فلما توفي مشى في جنازته أكثر من ألف إنسان ، ورفعنا لك ذكرك ، وكل آية تتوجه إلى النبي عليه الصلاة والسلام لكل مؤمن منها نصيب بقدر إيمانه واستقامته ، إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين ، وهذا حقٌّ وصدقٌ .
قال بعضهم : أخبرني عبد الله بن المبارك ، وكان شيخاً قديماً ، قال : كنت عند إسماعيل ، فتكلم إنسان بشيء فضحك بعضنا ، وثَمَّ أحمد بن حنبل ـ أيْ كان في ذاك المجلس ـ قال : فأتينا إسماعيل فوجدناه غضبان ، فقال : أتضحكون وعندي أحمد بن حنبل ، انظرْ إلى العلماء الصادقين ، إنهم ملوك .
وهنا نقطة مهمة ؛ إنّ الأقوياء في الأرض ملكوا الرقاب ، بإشارة يحركون ملايين الناس ، أما الأنبياء فقد ملكوا القلوب ، وشتان بين أن تملك الرقاب ، وبين أن تملك القلوب ، زارنا ضيف من دولة آسيوية ، فالذي رافقه اعتذر له أن المطاعم مغلقة اليوم ، لأنه يوم عيد مولد رسول الله ، قال هذا الرجل : من كم سنة ولد ، فقال له : من ألف وخمسمائة عام ، فصعق ! هل من المعقول أنّ إنسانًا من ألف وخمسمائة عام لا تزال ذكراه عطرة في قلوب الناس ؟ الأنبياء ملكوا القلوب ، أنت يكفي أن تقف أمام قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر إلى مئات الألوف الذين يمشون أمام قبره ، ويبكون ، ماذا أعطاهم هذا الإنسان ؟ ولم يشاهدوه، ماذا أعطاهم ؟ هل أعطاهم المال ؟ كماله رفعه .
قال بعضهم :" ما رأيت يزيد بن هارون لأحد أشد تعظيماً منه لأحمد بن حنبل ولا أكرم أحداً مثله ، كان يقعده إلى جنبه ويوقره ولا يمازحه" .
إخوانا الكرام ، إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم ، إنسان مسلم وقور مستقيم ، هل تصدق أنك إذا أكرمته فكأنك أكرمت الله عز وجل ، مجتمع المؤمنين مجتمع منضبط ، مجتمع فيه محبة ، فيه توقير، فيه احترام ، فيه مهابة .
والله مرة دخلنا إلى بيت أذكر ذلك كثيراً ، أحد إخواننا أحب أن يشتري بيتًا ، فقال لي : هل تذهب معي لتشاهد البيت ، قلت له : نعم ، دخلنا إلى غرفة فيها جهاز اللهو مفتوح على مسلسل ، وأمامه ولد مستلقٍ على ظهره ، رجلاً فوق رجل يتابع المسلسل ، دخلت أنا ، ومعنا اثنين ، فلم يتحرك والده ، ما هذا الأدب ؟ أين أخلاق المسلمين ، النبي الكريم رأى شاباً يمشي أمام شيخ ، فقال له : من هو ؟ قال : أبي ، قال : لا تمشِ أمامه ، ولا تقعد قبله ، ولا تناده باسمه .
مرة أخ حدثني قال لي : والله تزوجت امرأة ، وقعدت على الأرض جالسًا ومرتاحًا ، وهي جالسة على أريكةٍ ، فطرقته بقدمها ، وقالت له غيِّر القناة ، ثم طلَّقها بعد هذا ، ما هذه الزوجة ؟ والأبوة ؟ هذا مجتمع الانحراف ، مجتمع التفلت ، مجتمع تخلق بآداب الكفار .
لنا أخ أرسلوه في بعثة إلى فرنسا في دورة تدريبية ، قال لي : أحببت أن أتعلم البراتيك ، وقف على نهر السين ، ووجد شابًا هائمًا ، يتعلق نظرُه بمياه النهر ، فسأله عن اسمه ، وعن مشكلته ، قال له : آه لي في الحياة أمنية واحدة ، قال له : ما هي ؟ قال : أن أقتل أبي ، قال له : ولمَ ؟ قال : لأني أحب فتاةً فأخذها مني، انظروا إلى هذا الأب ، وإلى هذا الابن .
الأب في الإسلام مقدس ، هل تصدقون أن الله سبحانه وتعالى ينتظر من عبده أن يذكره كما يذكر أباه ، فهل ثمّة آية في هذا المعنى ؟
معنى هذا أنّ الأب مقدس ،
بدأ بالأب ، لأنه مصدر الاعتزاز الاجتماعي ، أنا ابن فلان ، وفي بالفقه قضية تحيِّر الناس ، وهي أنّ الابن إنْ مات في حياة أبيه ، فأولاد هذا الابن المتوفى لا يرثون شيئاً ، كيف ؟ لكن ما فات هؤلاء هو حكمة الشارع العظيم ، والنبي قال : " العم والد " . [الجامع الصغير ـ السيوطي ضعيف ]
لو أن هذا الأب نصيبه خمسون ألفًا ، والأعمام أعطوا أولاد المتوفى خمسين ألفًا وانتهى الأمر ، فالشرع قال: لا ، الابن الذي يموت في حياة أبيه لا يأخذ شيئاً ، لكن أعمام أولاده الصغار مكلفون برعاية أولاد أخيهم حتى نهاية الحياة ، وهذا أفضل وأكمل ، ولكن الناس الآن أكثروا في قطع الأرحام ، ويجري العمل شرعًا بالوصية الواجبة ، أما الأكمل أن العم والد ، وعليه رعايتهم ، وليأخذ هو الخمسين ألفًا من الميراث .
يقول عبد الرزاق : "ما رأيت أحداً أفقه ، ولا أورع من أحمد بن حنبل ، وما رأيت مثلَه ، وما قدم علينا مثلُه"، سبحان الله فربنا عز وجل يبعث على كل مائة عام مَن يجدِّد لهذه الأمة دينها ، وليس معنى هذا أنه واحد ، لكن (مَن) تعني أكثر من واحد ، وفي كل بلد هناك رجل مجدِّد ، كلما فرغ الدين من مضمونه ، وبقي منه الطقوس ، والشكليات ، والحركات ، والاحتفالات ، والأناشيد ، والولائم ، والمزاهر ، والكلابيات ، والمسابح، والعطور ، والمسواك ، ولكن لا تقوى ، ولا استقامة ، تدخل إلى محل تجاري تجد قوله تعالى : إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، هو يريد أن يفتح الله عليه بوفرة البضاعة ، يكتب : استقم كما أمرت ، ومن تاب معك ، والحقيقة لا تجد أيّةَ استقامة .
مرة كنت أصلي في مسجد ، وهذه القصة قديمة من عشرين سنة ، وهذا المسجد في أحد مصايف الزبداني، فمشيت مع رجل يتجه نحو سيارته ، فلما وصلت ، وكنتُ قد ظننته إنسانًا ملتزمًا فوجدت امرأة متفلتة أشدَّ التفلت ، كيف جمع بين خروج زوجته ، وبين ارتياده المسجد ؟ .
قال يحيى بن معين : "واللهِ ما تحت أديم السماء أفقه من أحمد بن حنبل ، وليس في شرق ولا غرب مثله" ، وقال بعضهم : "أجاب أحمد بن حنبل عن ستين ألف مسألة بأخبرَنا وحدَّثنَا " ، ستين ألف مسألة أجاب عنها بالأحاديث ، أخبرنا وحدثنا ، هؤلاء الذين يحملون السنة أناس عظام جداً ، هؤلاء الذين نقلوا لنا سنة رسول الله يجب أن نحترمهم احتراماً كبيراً .
قال بعضهم : "أجمع المسلمون على أحمد بن حنبل" ، وقال : "كنت إذا رأيته خُيِّل إليَّ أن الشريعة لوح بين عينيه" ، أي قضية يجبُّ عنها ، وحاجة الناس إلى العالم كحاجتهم إلى الهواء ، حاجة الناس إلى الدين حاجتهم إلى الهواء لأنه كتلة من لحم ودم فيها شهوات تريد أن تأكل أطيب الطعام ، تريد أن تتزوج ، تريد أن تعلو في الأرض ، فإذا كانت بلا منهج ، فالفساد واقع ، بلا منهج يعتدي ، العدوان من لوازم أي إنسان يتحرك بلا منهج ، فالمنهج أساسي ، وإليكم هذا السؤال : طريق كله منعطافات ، وعلى اليمين وديان ، وعلى الشمال جبال ، وفي الطريق نفسه صخور وتلال ، وأكمات ، وحفر ، فحاجة هذه المركبة إلى مقود ماسَّة وضرورية ، وحاجتها إلى سائق حكيم لازمةٌ حتمًا ، لمجرد أن يغفل السائق يقع الحادث لا محالة ، ولمجرد أن يتعطل المقود يقع الحادث وقوعًا حتميًّا ، والإنسان في الحياة الدنيا دونَه مزالق كثيرة ، النساء مزلق ، المال مزلق ، التجارة مزلق ، الزواج مزلق ، النزهة مزلق ، يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل .
قال إسحاق : إني لأقيس أحمد إلى كبار التابعين ، وهو حجة بين الله وبين عبيده في أرضه ، ولا يُدرَك فضلُه".
إخواننا الكرام هناك نقطة مهمة جداً ؛ في كل مجتمع ، في المدرسة ، في كل دائرة ، ومستشفى ، في كل ثكنة ، في كل مجتمع ، لله عز وجل فيه حجةٌ على بقية الناس ، يجعل هناك رجلاً مستقيمًا ، والضغوط نفسها ، ضِيق الدخل نفسه ، القسوة نفسها ، المغريات نفسها ، ومع ذلك فالمؤمن علَم يطبِّق منهج الله عز وجل في كل مكان ، في كل مجتمع ، في كل مؤسسة ، في كل مستشفى ، في كل دائرة إنسان مستقيم ، أحياناً يقولون في الغابات الكثيفة إذا قلعوا أشجار غابة ، أو قلعوا أشجارًا للاستعمالات الخشبية يُبقُون علامات ، وحدودًا بين الأراضي ، وربنا عز وجل في كل مجتمع له علامات ، فالمؤمن حجة الله على مَن في هذه الدائرة ، الكل يأخذون مالاً حراماً ، وهو لا يأخذ ، بل الدنيا تحت قدمه ، أنت أنصحك لوجه الله : كن أنت الحجة ، وإياك أن تكون أنت المحجوج .
قال بعضهم : "لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه" ، هذا الكلام أسوقه للآباء ، أحياناً يكون للأب طفل فيه تفتح كبير ، وذكاء ، وطيب ، وبراءة ، فهذا الطفل له مستقبل كبير ، فإياك أن تسوقه وإخوته بعصًا واحدة ، إذا توافرتْ في الطفل علائمُ الذكاء والنجابة وطلب العلم ، وحَفِظَ كتابَ الله صغيرًا ، فهذا الطفل يجب أن تكرِّس كل حياتك من أجله ، وانتبِهْ فقد يكون داعية كبيرًا ، أو مصلحًا اجتماعيًا بارزًا ، أو معلمًا جليلاً ، وكل هذه الخصائص والأعمال في صحيفتك ، أسوق هذه النصيحة للآباء الذين عندهم أبناء متميِّزون ، ألمعية ، تعلق بالدين ، والله أجد عندنا كثيرًا من الإخوة الصغار الذين أسمع منهم إجاباتٍ صعبٌ أنْ تُصدَّق ، إجابة محكمة دقيقة ، بلغة فصيحة ، وهم صغار جداً ، وهذه علامات نجابة ، فكل أب له ابن بهذا المستوى يجب أن يقف حياته ، وإمكاناته وكل جهوده من أجل تفجير طاقات ابنه ، ليكون امتدادًا له ، وليكون خليفة له .
قال بعضهم : "لقد كاد هذا الغلام أن يكون إماماً في بطن أمه" ، وربنا عز وجل له حكمة بالغة ، يعطي مؤشرات مبكرة ، فترى في الطفل النجيب علائم النجابة في سن مبكرة ، نحن يهمنا أن نكشف العبقريات ، نكشف الطاقات العالية ، نكشف الألمعية في الأبناء ، فكل أب يهمل ابنه والله يعد في حقه مجرماً ، لأن الابن أكبر ثروة يملكها الأب والدليل اسمعوا هذا الحديث :" خير كسب الرجل ولده "
الإنسان قد يحصل مالاً ، يكسب سمعة ، تجارة واسعة ، مرتبة علمية عالية ، ينشئ مسجدًا ، يعمر ميتمًا ، يؤلف كتابًا ، النبي يقول : " خير كسب الرجل ولده " ، من ربّى ولده صغيراً سُرَّ به كبيراً ، يدخل على قلب الأب من السرور والبهجة الشيء الكثير ، إذا رأى ابنه مؤمناً مستقيماً ، صالحاً ، متوازناً ، ممّا لا سبيل إلى وصفه ، وإذا اختار أن يغترب إلى بلاد المشركين ، واكتشف أن لابنته صاحباً ، أو أن ابنه ينحرف انحرافاً خطيراً ، أو انحرافاً شاذاً ، يدخل على قلبه من الألم ما لا سبيل إلى وصفه ، فالآباء إذا أرادوا أن يسعدوا فعليهم بتربية أبنائهم على القيم الإسلامية ، وإذا أرادوا أن ينجوا من الكآبة فليُرَبُّوا أبناءهم تربية رشيدة حكيمة ، لذلك هناك مثل بسيط في التعليم .
إذا كان لدى الطالب امتحان في هذا الكتاب ، فيمكنه أنْ يستلقي ، ويقرأه تصفحًا ، فإذا أمكن أن نعطي للجهد وحدات نقول : لقد بذل جهداً في قراءة هذه الكتاب ، فالقراءة الأولى بنسبة خمسة بالمائة ، بعد أن ينتهي من قراءته لم يذكر ولا كلمة منه ، وكأنه لم يقرأه ، أما إذا جلس على طاولة ، وأمسك بيده قلم رصاص ، ولخص كل فكرة ، ووضع خطًّا تحت الأفكار الرئيسية ، ووضع أسئلة مقترحة في كل فصل ، وأعاد الأفكار ، وكتبها ، فقدْ بذل خمسة وثمانين بالمائة من الجهد ، بمعنى أنه يمكن أن يذكر كلَّ أفكار الكتاب ، الشيء نفسه في تربية الأولاد يمكن أن تبذل جهدًا بسيطًا في تربية الأولاد ، كأنْ يسأل الأبُ ابنَه : هل نجحت يا بني ، فيقول : نعم ، نجحت ، تسأل والدَه : في أي صف ابنك ؟ يقول : واللِه لا أذكر ، ثم يسأل ابنَه : يا بني أنت في أي صف أنت ؟ فلا يعرف ابنه في أي صف هو ، نجح أم لم ينجح ، هذه مشكلة، أما عندما يكون للأب عناية بالغة ، ولاسيما في دين الابن ، انظر كيف أنّ أكثر الناس يهتمون بدنيا أبنائهم ، ولا يهتمون بدينهم ، فإذا أهملوا دين أبنائهم ، وتفلَّت أبناؤهم من منهج الله يشبُّون وهم لا يعرفون حق آبائهم، أحياناً أب يقف حياته كلها من أجل ابنه ، فيسافر خارج البلاد ، ويتزوج بأجنبية ، ويأخذ إقامة دائمة ، وينسى أباه وأمه ، وكأن الذي ربّاه ما فعل شيئاً ، إذًا الإسلام منهج كامل .
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : "كان أبي يذاكر بألف ألف حديث" ، وقال بعضهم : "إن عاش هذا الفتى سيكون حجةً على أهل زمانه ، ويعني أحمد بن حنبل" .
يقول بعضهم : "لولا الثوري لمات الورع ، ولولا أحمد بن حنبل لأحدثوا في الدين" ، قال : إذا رأيت رجلاً يحب أحمد بن حنبل فاعلم أنه صاحب سنة . قال بعضهم : إني لأتزين بذكر أحمد بن حنبل .
بصراحة هل يوجد رجل منا ليس له سهرة مع أقربائه ، أو لقاء ، أو وليمة ، أو أمسية ، أو نزهة ، لا تجد إنسانًا إلا وعنده أقل من لقاء أو لقاءان في الجمعة مع أقربائه ، هذا اللقاء ماذا ينبغي أن تقول فيه ؟ هناك موضوعات تبعث في النفس الضيق ، التشاؤم ، والسوداوية ، وهناك موضوعات تزين المجلس في التعبير الشائع ، تعطر المجلس ، بل إن عند ذكر الصالحين تتنزل الرحمات ، فحاولْ في كل جلسة أن تحدث الناس عن عالم جليل ، له أعمال طيبة ، له موقف نبيل ، له كرم ، له شجاعة ، له فصاحة ، له قوة منطق ، حاول أن تذكر أشخاصاً تفوقوا على أقرانهم ترى أن الناس تعلقوا بهم واستبشروا ، والحقيقة أنّ الإنسان إما أن يرتفع ، وإما أن يسقط ، إذا حدثتنا عن الساقطين نسقط معهم ، وإن حدثتنا عن المتألقين نتألق معهم ، إن حدثنا عن أناس انحرفوا لعل الانحراف يُزَيَّنُ لنا ، لذلك اجتهدْ أن تجعل في كل مجلس حديثاً عن الصالحين ، وصحابة رسول الله يشغلون قمة القائمة .
قال أحدهم : دخلت على ذي النون السجن ، ونحن بالعسكر ، فقال :" على أي حال سيدنا ، يعني أحمد بن حنبل" ، العظيم عظيم ، دخل السجن قالوا : إذا لسعت الحشرة حصاناً تبقى الحشرة حشرةً ، والحصان حصاناً، لا ينتقص من قدر الحصان أنْ لسعته حشرة ، ولا يزيد من قيمة الحشرة أنها لسعت حصاناً ، الحشرة حشرة والحصان حصان ، العظيم عظيم لو دخل السجن ، فقال :" على أي حال سيدنا ، يعني أحمد بن حنبل" .
قال الدهلي : "جعلت أحمد إماماً فيما بيني وبين الله" ، والحقيقة تعبير لطيف ، أنت مؤمن تسعى إلى الله ، فيجب أن يكون الشخص بينك وبين الله قدوة لك ، تسأله فيجيبك ، وتقتدي بأفعاله ، وتتخلق بأخلاقه ، وتأنس بالقرب منه ، وتذكِّرك رؤيته بالله ، فعن عمر بلفظ : "خياركم الذين إذا رُؤوا ذُكِر اللهُ بهم ".
[ ورواه البيهقي ]
إذا رأى رجل شخصًا شهوانيًّا تقفز نفسُه إلى الشهوات التي يمارسها ، وإذا رأى إنسانًا حجمه المالي كبير تقفز نفسه إلى بيته وسيارته ، وتجارته ، وأرباحه ، أما إذا رأيت ولياً لله تذكّرَ اللهَ مباشرةً ، "عن عمر بلفظ : خياركم الذين إذا رؤوا ذكر الله بهم "
[ ورواه البيهقي ]
قال النسائي : "جمع أحمد بن حنبل المعرفة بالحديث والفقه ، والورع ، والزهد ، والصبر" ، ودائماً إنْ التقينا بإنسان علْمُه دقيق جداً ، ولكن معاملته غير راقية نقول : ليت أخلاقه كعلمه ، أحياناً تلتقي بإنسان أخلاقه عالية جداً ، لكن معلوماته متواضعة ، تقول : ليت علمه كأخلاقه ، أما هذا الإنسان فقد جمع بين المعرفة بالحديث ، وبين الفقه والورع ، والزهد ، والصبر ، فهذه هي البطولة لذلك لا ينصر هذا الدينَ إلا مَن أحاطه مِن كل جوانبه ، ورع ، وزهد ، وصبر ، وجرأة ، واستقامة وعلم ، ومعرفة ، وتحقق .
عن المزني قال سئِل عن أحمد بن حنبل : متى تألق ؟ فقال : يوم المحنة ، وأبو بكر يوم الردة ، وعمر يوم السقيفة ، وعثمان يوم الدار ، وعلي يوم صفين .
الإنسان قد يتألق بموقف تألقًا رائعًا جداً ، سيدنا أحمد بن حنبل تألق يوم المحنة ، محنة خلق القرآن .
قال العباس : سمعت أبا جعفر الأنباري يقول : لما حُمِل أحمدُ بن حنبل - دققوا في هذا القول - : لما حُمِل أحمد بن حنبل يراد به المأمون ، أُخبِرتُ فعبرتُ الفرات إليه ، فإذا هو في الخان ، فسلمت عليه ، فقال يا أبا جعفر تعني ـ أي أتعبت نفسك ـ فقلت : ليس هذا عناء ، قال : فقلت له : يا هذا ـ الآن أبو جعفر الأنباري لما علم أن أحمد بن حنبل حُمل إلى المأمون ليعترف أن القرآن مخلوق ، وإلا أدخل إلى السجن ـ أنت اليوم رأس ، والناس يقتدون بك ، فو الله إن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبنَّ بإجابتك خلقٌ مِن خلقِ الله كثيرٌ ـ في بعض البلاد الإسلامية أفتى عالِمٌ بجواز الفائدة ، والإيداع بالبنوك ، ففي اليوم التالي أُودِع في البنوك أربعة وثمانون مليارًا ، ألم يقل له : يا غلام إياك أن تسقط قال : بل أنت يا إمام إياك أن تسقط ، الغلام قال : إني إنْ سقطتُ سقطتُ وحدي ، ولكن إن سقطتَ أنتَ سقط معك العالَم ، بلد إسلامي صدرت فتوى من المفتي بجواز الاستثمار الربوي ، فردّ عليه في اليوم التالي ثمانية وعشرون عالماً ، لكن الأموال أودعت ـ وإن لم تُجِب ليمتنعنّ خلقٌ من الناس كثيرٌ ، ومع هذا فإن الرجل ـ المأمون ـ إن لم يقتلك ، فإنك تموت ، ولا بد من الموت ، فاتَّقِ الله ، ولا تجبهم إلى شيء ، فجعل أحمد يبكي ، وهو يقول : ما شاء الله ، ما شاء الله .
قال صالح بن أحمد بن حنبل ابنه الثاني : "ربما رأيت أبي يأخذ الكسرة ـ كسرة خبز ـ ينفض عنها الغبار، ويجعلها في قصعة ، ويصب عليها الماء ، ثم يأكلها بالملح " ، كان متقشفاً جداً ، وكان يأكل من عمل يده ، وكان دخله قليلاً ، مع كل هذا العلو في الأرض ، ومع كل هذه السمعة الطيبة ، ومع كل هذا التعظيم كان فقيراً .
الحقيقة أن الحديث عن هذا العالم الجليل حديث يطول ، والأقوال فيه كثيرةٌ جداً ، قال : "كان أبو عبد الله لا يجهل ، وإن جُهل عليه حلم ، واحتمل ، ويقول : يكفيني الله ، ولم يكن بالحقود ولا العجول ، كثير التواضع ، حسن الخُلقِ ، دائم البشر ، لين الجانب ، ليس بفظٍّ ، وكان يحب في الله ، ويبغض في الله ، وإذا كان في أمرٍ مِن الدين اشتد له غضبه ، وكان يحتمل الأذى من الجيران" .
أيها الإخوة ، كنت أتمنى أن ننتهي في هذا الدرس من مناقب الإمام أحمد بن حنبل ، وعلى كلٍ يقول عبد الله بن أحمد بن حنبل : "توفي أبي رحمه الله يوم الجمعة ضحوةً ، ودفناه بعد العصر باثنتي عشرة ليلة من ربيع الآخر ، سنة إحدى أربعين ومائتين للهجرة ، وصلى عليه محمد بن عبد الله بن طاهر ، غلبنا على الصلاة عليه ، وكنا قد صلينا عليه نحن والهاشميون داخل الدار" ، وقال : "مرض أبو عبد الله تسعة أيام ، وكان ربما أذِن للناس فيدخلون عليه أفواجاً ، يسلمون عليه ويردُّ بيده ، وتسامع الناس ، وكثروا ، فأغلق الباعة دكاكينهم" ، ثمة وصف طويل جداً لهذه الوفاة ، التي أحدثت اضطراباً شديداً جداً بين الناس ، وقد قيل : مشى في جنازته أكثر من ثمانمائة ألف .
أيها الإخوة ، الناس بعلمائها ، والعلماء بورعهم ، و لا يكون العالم عالماً إلا إذا كان ورعاً ، أمّا كمعلومات فأيُّ إنسان يحصّل المعلومات ، فهي ثقافة ، أما قيمته ففي ورعه ، والباب مفتوح ، وكل إنسان ممكن أن يقتدي بهذا الإمام العظيم ، وكلُّ إنسان يمكن أن يطلب العلم ، ويتعلَّم ويرقى عند الله ، ودائماً المؤمن طموح ، وعلو الهمّة من الإيمان ، وهؤلاء الأعلام قدوة لنا فأرجو الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بهؤلاء الذين مضوا إلى ربهم ، وقد تركوا آثاراً عظيمة ، والإنسان قيمته بما أحدث من أثر .
ذات مرة أخ من إخواننا حضر فترة طويلة عندنا ، ثم توفي ، أخبرني ابنه صباحاً توجهت إلى موعد الصلاة عليه في جامع في آخر الحي ، فأبَّنه رجل من أهل العلم ، ماذا قال ؟ قال : أخوكم أبو فلان ، كان مؤذناً ، ترحموا عليه ، أنا دهشت إلى هذا التأبين السريع ، إذًا ماذا سيتكلم ؟ هل يتكلم عن مساحة بيته ؟ عنده تزيينات من جبصين ، أثاث فخم جداً ، كل دنياه غير خاضعة للحديث عنه ، قلت في نفسي : اعمل عملاً يستطيع المؤبِّن أن يتكلم عنك بأقل مِن خمس دقائق ، أنت سوف تؤبن فلانًا ، ماذا ستقول عنه ؟ إذا لم يكن له عمل صالح ، فليس له أثر ، إذًا فلتكنْ لك خدمة في سبيل الإسلام ، لتُذكَر من خلالها ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ ؛ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ "
[ الترمذي ـ النسائي ـ أبو داود ـ أحمد ـ الدارمي ]
مرة سألت طلابي سؤالاً فقلت : أعطوني اسمَ تاجر كبير عاش في الشام عام ألف وثمانمائة وخمسة وسبعين ، انتظرت دقيقتين فلم يجب أحد منهم ، فقلت لهم : وأنا لا أعرف أحدًا ، أما سيدنا عمر ، صلاح الدين الأيوبي ، أبو حنيفة ، الشافعي ، أحمد بن حنبل ، فهؤلاء الرجال ذِكْرُهم على الألسنة ، مِن هنا قال سيدنا علي : يا بني ، مات خزان المال ، وهم أحياء ـ وهم في أوج حياتهم ميتون ـ والعلماء باقون ما بقي الدهر .
يقولون لك : عُقِد قرانٌ في (الشيراتون) ، كلف ستين مليونًا ، فالحديث عن هذا العقد ، وعن هذا البذخ حديث بمعرض الذم لا المدح ، دفعٌ وذلٌّ ، يروون أن إنسانًا دفع ليرةً ذهب ، وغداً يدفع ليرتين ليس لها قيمة إلا مع الإخلاص ، ومهما أردت أن تنتزع إعجاب الناس بالمال طريق مسدود ، لا ارتقاء فيه .
وقد دعيتُ إلى عقد قران يوم الجمعة عقب صلاة الفجر بمسجد وكان هناك تجلٍّ عمَّ الحاضرين ، ومن دون صالات ، من دون تكاليف ، فالأمور كلما تبسطت كلما كانت أقرب إلى الواقع ، فاللهم ألهمنا الرشاد والسداد .
والحمد لله رب العالمين